اعلم أنه لا يصلح تقدير الحكاية في «النّظم والترتيب»، بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف، وذاك أنّ الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكيّ عنه، ولا بدّ من أن تكون حكايته فعلا له، وأن يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكيّ عنه، نحو أن يصوغ إنسان خاتما فيبدع فيه صنعة، ويأتي في صناعته بخاصّة تستغرب، فيعمد واحد فيعمل خاتما على تلك الصورة والهيئة، ويجيء بمثل صنعته فيه، ويؤدّيها كما هي، فيقال عند ذلك: «إنه قد حكى عمل فلان، وصنعة فلان».
و «النظم والترتيب» في الكلام كما بينّا، عمل يعمله مؤلّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخّى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّا إن تعدّينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب، أدّى ذلك إلى المحال، وهو أن يكون المنشد شعر امرئ القيس، قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النّتائج والفوائد، مثل عمل امرئ القيس، وأن يكون حاله إذا أنشد قوله: [من الطويل]
فقلت له، لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل (?)
حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضّة، فيجيء بمثلها من ذهبه وفضّته. وذلك يخرج بمرتكب، إن ارتكبه، إلى أن يكون الرّاوي مستحقّا لأن يوصف بأنه: «استعار» و «شبّه»، وأن يجعل كالشاعر في كلّ ما يكون به ناظما، فيقال: إنه جعل هذا فاعلا، وذاك مفعولا، وهذا مبتدأ، وذاك خبرا، وجعل هذا حالا، وذاك صفة، وأن يقال: «نفى كذا» و «أثبت كذا»، و «أبدل كذا من كذا».
و «أضاف كذا إلى كذا»، وعلى هذا السّبيل، كما يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك، لزم منه أن يقال فيه: «صدق، وكذب»، كما قال في المحكيّ عنه، وكفى بهذا بعدا وإحالة. ويجمع هذا كلّه، أنه يلزم منه أن يقال: «إنّه قال شعرا»، كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله: «إنه قد صاغ خاتما».