والسبب في ذلك أن هذا التعريض، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، والتصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. وإذا أسقطت من الكلام فقيل: «يتذكّر أولو الألباب»، كان مجرّد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكّرون، ولم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. ومحال أن يقع تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر، ولا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول: «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما»، يقع إذن إن وقع، بمدح إنسان بالتيقّظ، وبأنه فعل ما فعل، وتنبّه لما تنبّه له، لعقله ولحسن تمييزه، كما يقال:
«كذلك يفعل العاقل»، و «هكذا يفعل الكريم».
وهذا موضع فيه دقّة وغموض، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه.
وممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما»، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه معلوم، ويدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع، كقوله: [من الخفيف] إنما مصعب شهاب من الله (?) ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن: [من الطويل]
ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما ... أجدّت لغزو، إنّما أنت حالم (?)
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة: 11]، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما، ولذلك أكّد الأمر في تكذيبهم والردّ عليه، فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه، وبين «إنّ» الذي هو التأكيد، فقيل: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12].