تفسير هذا: أنّه لا يحسن أن تقول: «إنّما يتذكّر أولو الألباب لا الجهال»، كما يحسن أن تقول: «إنّما يجيء زيد لا عمرو».
ثم إنّ النّفي فيما نحن فيه، النّفي يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى، فمثال التأخير ما تراه في قولك: «إنما جاءني زيد لا عمرو»، وكقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22]، وكقول لبيد: [من الرمل] إنّما يجزي الفتى ليس الجمل (?) ومثال التّقديم قولك: «ما جاءني زيد، وإنّما جاءني عمرو»، وهذا ممّا أنت تعلم به مكان الفائدة فيها، وذلك أنّك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت: «ما جاءني زيد وجاءني عمرو»، لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وأن المعنى الآن مع دخولها، أنّ الكلام مع من غلط في عين الجائي، فظنّ أنه كان زيدا لا عمرا.
وأمر آخر، وهو ليس ببعيد: أن يظنّ الظانّ أنّه ليس في انضمام «ما» إلى «إنّ» فائدة أكثر من أنّها تبطل عملها، حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها «كافّة»، ومكانها هاهنا يزيد هذا الظّن ويبطله. وذلك أنك ترى أنك لو قلت:
«ما جاءني زيد، وإنّ عمرا جاءني»، لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي «عمرو» لا «زيد»، بل يكون دخول «إنّ» كالشيء الذي لا يحتاج إليه، ووجدت المعنى ينبو عنه.
ثم اعلم إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب، إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، نحو أنّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] [الزمر: 9]، أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار، وأن يقال إنهم من فرط العناد ومن غلبة الهوى عليهم، في حكم من ليس بذي عقل، وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكّروا، كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. وكذلك قوله:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، وقوله عز اسمه: