انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر. وقد قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت: «إنّها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة». وأمّا ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدلّ عليه.
مثال ذلك: أن صاحب الكتاب قال في باب «كان»:
«إذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك، وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: «حليما»، فقد أعلمته مثل ما علمت. وإذا قلت: «كان حليما»، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصفة» (?).
وذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر، ولا خبر من غير مبتدأ، كان معلوما أنك إذا قلت: «كان زيد» فالمخاطب ينتظر الخبر، وإذا قلت:
«كان حليما»، أنه ينتظر الاسم، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا شيء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه.
وممّا الأمر فيه بيّن، قوله في باب «ظننت»:
«وإنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» (?).
وذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت»، إذا كنت تنحو نحو المعنى، إلّا ما كان جملة مفيدة، فلا تقول: «قال فلان زيد» وتسكت، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة، كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا.
ومثل ذلك قولهم: «إنّما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه»، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى، فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع، فلأنّ الدليل عليه حاضر معه، والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب.
واعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف (?) من الدقائق.
وممّا يجب أن يعلم: أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا من المذكور ولا يكون من غيره، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه، كما يحسن فيما لا يختصّ بالمذكور ويصحّ من غيره.