قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه ليس بذي قلب، كما يجعل كأنه جماد، وكأنه ميّت لا يشعر ولا يحسّ وليس سبيل من فسّر «القلب» هاهنا على «العقل»، إلّا سبيل من فسّر عليه «العين» و «السمع» في قول الناس: «هذا بيّن لمن كانت له عين، ولمن كان له سمع»، وفسّر «العمى» و «الصّمم» و «الموت» في صفة من يوصف بالجهالة، على مجرّد الجهل، وأجرى جميع ذلك على الظّاهر، فاعرفه.
ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، وبمكان الشّرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
هذا فنّ من القول دقيق المسلك، لطيف المأخذ، وهو أنّا نراهم كما يصنعون في نفس الصّفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض، كذلك يذهبون في إثبات الصّفة هذا المذهب. وإذا فعلوا ذلك، بدت هناك محاسن تملأ الطّرف، ودقائق تعجز الوصف، ورأيت هنالك شعرا شاعرا، وسحرا ساحرا، وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق، والخطيب المصقع. وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرّحا بذكرها، مكشوفا عن وجهها، ولكن مدلولا عليها بغيرها، وكان ذلك أفخم لشأنها، وألطف لمكانها، كذلك إثباتك الصّفة للشيء تثبتها له، إذا لم تلقه إلى السامع صريحا، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرّمز والإشارة، كان له من الفضل والمزيّة، ومن الحسن والرّونق، ما لا يقلّ قليله، ولا يجهل موضع الفضيلة فيه.
وتفسير هذه الجملة وشرحها: أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه، وإثبات معنى من المعاني الشريفة له، فيدعون التصريح بذلك، ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبّس به، ويتوصّلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات، لا من الجهة الظاهرة المعروفة، بل من طريق يخفى، ومسلك يدقّ؟ ومثاله قول زياد الأعجم: [من الكامل]