أنّه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت: «بدت مثل قمر، ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل عنبر، ورنت مثل غزال»، في أنّا نخرج إلى الغثاثة، وإلى شيء يعزّل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها، ويصدّ أوجهنا عن محاسنها، ويسدّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا.
فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنّه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالا وإدبارا، حتى كأنها قد تجسّمت منهما، لكان حقّه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ «الذات» فيقال: «إنما هي ذات إقبال وإدبار». فأمّا أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتّى يكون الحال فيه كالحال في:
حسبت بغام راحلتي عناقا حين كان المعنى والقصد أن يقول: «حسبت بغام راحلتي بغام عناق»، فمما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة، نسّابة للمعاني.
هذه مسألة قد كنت عملتها قديما، وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالا بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:
37]، أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبّر والتفكّر والنّظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه، كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤدّيان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر.
فأما تفسير من يفسّره على أنه بمعنى «من كان له عقل»، فإنه إنما يصحّ على أن يكون قد أراد الدّلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل»، كما يتوهمه الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، وإلى تحريف الكلام عن صورته، وإزالة المعنى عن جهته. وذاك أنّ المراد به الحثّ على النّظر، والتقريع على تركه، وذمّ من يخل به ويعقل عنه. ولا يحصل ذلك إلا بالطّريق الذي قدّمته، وإلّا بأن يكون