«ولقد رأيت أبا عمرو الشيبانيّ يكتتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التّحفظ والتذكّر، وربما خيّل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا
شعرا جيّدا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء»، ثم قال: «ولولا أن أكون عيّابا، ثم للعلماء خاصّة، لصوّرت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة».
واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلّا لأنّ الخطأ فيه عظيم، وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التّحدّي من حيث لا يشعر. وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه، من أن لا يجب فضل ومزيّة إلا من جانب المعنى، وحتى يكون قد قال حكمة أو أدبا، واستخرج معنى غريبا أو تشبيها نادرا، فقد وجب اطّراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة، وفي شأن النظم والتأليف، وبطل أن يجب بالنظم فضل، وأن تدخله المزيّة، وأن تتفاوت فيه المنازل.
وإذا بطل ذلك، فقد بطل أن يكون في الكلام معجز، وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب، ودخل في مثل تلك الجهالات، ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار.
لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى، حتّى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها.
فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك، فليستا عبارتين عن معنى واحد، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين.
قيل لك: إن قولنا «المعنى» في مثل هذا، يراد به الغرض، والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول «زيد كالأسد»، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: «كأنّ زيدا الأسد»، فتفيد تشبيه أيضا بالأسد، إلّا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأوّل، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصّر عنه، حتى يتوهّم أنّه أسد في صورة آدميّ.
وإذا كان هذا كذلك، فانظر هل كانت هذه الزيادة وهذا الفرق إلا بما توخّي في نظم اللفظ وترتيبه، حيث قدّم «الكاف» إلى صدر الكلام وركّبت مع «أن»؟ وإذا