ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام، أن تنظر في مجرّد معناه، وكما أنّا لو فضّلنا خاتما على خاتم، بأن تكون فضّة هذا أجود، أو فصّه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام. وهذا قاطع، فاعرفه.

واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنّف في شأن البلاغة، وكلام جاء عن القدماء، إلا وجدته يدلّ على فساد هذا المذهب، ورأيتهم يتشدّدون في إنكاره وعيبه والعيب به.

وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ، ويتشدّد غاية التشدد، وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعاني مشتركا، وسوّى فيه بين الخاصّة والعامّة فقال (?): «ورأيت ناسا يبهرجون أشعار المولدين، ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قطّ إلا في راوية غير بصير بجوهر ما يروي، وو لو كان له بصر لعرف موضع الجيّد ممن كان، وفي أي زمان كان. وأنا سمعت أبا عمرو الشّيباني، وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة، أن كلّف رجلا حتّى أحضره قرطاسا ودواة حتى كتبهما. قال الجاحظ: وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب، لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضا، وهما قوله: [من السريع]

لا تحسبنّ الموت موت البلى ... وإنّما الموت سؤال الرّجال

كلاهما موت، ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك على كلّ حال

ثم قال: «وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ، والقرويّ والبدويّ، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وصحّة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السّبك، وإنّما الشعر صياغة وضرب من التصوير».

فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني، وأبى أن يجب لها فضل: «وهي مطروحة في الطريق»، ثم قال: «وأنا أزعم أن ابن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا»، فأعلمك أنّ فضل الشعر بلفظه لا بمعناه، وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه، لم يستحقّ هذا الاسم بالحقيقة. وأعاد طرفا من هذا الحديث في البيان» فقال (?):

طور بواسطة نورين ميديا © 2015