قد عقلنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها، وما هي؟ وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتّى يعلم أنّه شجاع على الكمال؟ واستقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه، حتى إذا صرنا إلى المخاطب، وجدناه قد استكمل هذه الصفة، واستجمع شرائطها، وأخلص جوهرها، ورسخ فيه سنخها (?). ويبيّن لك أن الأمر كذلك، اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهّم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها، وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس وينضم بعضها إلى بعض. فالغرض إذن بقولنا: «أنت الشجاع»، هو الغرض بقولهم: «هذه هي الشجاعة على الحقيقة، وما عداها جبن» و «هكذا يكون العلم، وما عداه تخيّل»، و «هذا هو الشعر، وما سواه فليس بشيء». وذلك أظهر من أن يخفى.
وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون «أنت الشجاع» بمعنى أنّك كأنّك جميع الشجعان، على حدّ «أنت الخلق كلهم»، وهو أنك في قولك: «أنت الخلق» و «أنت الناس كلّهم» و «قد جمع العالم منك في واحد»، تدّعي له جميع المعاني الشريفة المتفرّقة في الناس، من غير أن تبطل تلك المعاني وتنفيها عن الناس، بل على أن تدّعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: «إنه معدود بألف رجل»، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم ولا فضيلة لهم بوجه، بل تريد أنّه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعا، ما لا تجد مقداره مفرّقا إلا في ألف رجل، وأمّا في نحو «أنت الشجاع»، فإنّك تدّعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، وأنه قد أوتي فيها مزيّة وخاصيّة لم يؤتها أحد، حتى صار الذي كان يعدّه الناس شجاعة غير شجاعة، وحتى كأنّ كلّ إقدام إحجام، وكلّ قوة عرفت في الحرب ضعف. وعلى ذلك قالوا: «جاد حتى بخّل كلّ جواد، وحتّى منع أن يستحقّ اسم الجواد أحد»، كما قال: [من الوافر]
وأنّك لا تجود على جواد ... هباتك أن يلقّب بالجواد (?)