قد بان الآن واتّضح لما نظر نظر المتثبّت- الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل، والازدياد من الفضل، ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلّد الذي يجري مع الظاهر، ولا يعدو الذي يقع في أوّل الخاطر- أنّ الذي قلت في شأن «الحذف» وفي تفخيم أمره، والتنويه بذكره، وأنّ مأخذه مأخذ يشبه السحر، ويبهر الفكر، كالذي قلت.
وهذا فنّ آخر من معانيه عجيب، وأنا ذاكره لك. قال البحتري في قصيدته التي أولها: [من الطويل] أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم (?) وهو يذكر محاماة الممدوح عليه، صيانته له، ودفعه نوائب الزمان عنه: [من الطويل]
وكم ذدت عنّي من تحامل حادث ... وسورة أيّام حززن إلى العظم (?)
الأصل لا محالة: حززن اللّحم إلى العظم، إلّا أنّ في مجيئه به محذوفا، وإسقاطه له من النّطق، وتركه في الضمير، مزيّة عجيبة وفائدة جليلة.
وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه به من أن يتوهّم في بدء الأمر شيئا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد. ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: «وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم»، لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: «إلى العظم»، أن هذا الحزّ كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك، ترك ذكر «اللحم» وأسقطه من اللفظ، ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف (?) الفهم، ويتصوّر في نفسه من أوّل الأمر أن الحزّ مضى في اللحم حتى لم يردّه إلّا العظم.