فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري: [من الكامل]

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما، ولم تهدم مآثر خالد (?)

الأصل لا محالة: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه، ثمّ هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: «لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها»، صرت إلى كلام غثّ، وإلى شيء يمجّه السمع، وتعافه النفس. وذلك أن في البيان، إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له، أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدّم ما يحرّك.

وأنت إذا قلت: «لو شئت»، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: «لم

تفسد سماحة حاتم»، عرف ذلك الشيء، ومجيء «المشيئة» بعد «لو» وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء، كثير شائع، كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35]، ووَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9]، والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل: لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا.

وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، وذلك نحو قول الشاعر: [من الطويل]

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه، ولكن ساحة البصر أوسع (?)

فقياس هذا لو كان على حدّ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام:

35] أن يقول: «لو شئت بكيت دما»، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015