بالفعل مطلقا، وما ذاك إلّا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل: «وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما»، جاز أن يكون لم ينكر الذّود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود، كما أنك إذا قلت:
«مالك تمنع أخاك؟»، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الرّوعة والحسن ما وجدت، إلّا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه.
وممّا هو كأنه نوع آخر غير ما مضى، قول البحتري: [من الطويل]
إذا بعدت أبلت، وإن قربت شفت، ... فهجرانها يبلي، ولقيانها يشفي (?)
قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، ويوجب اطّراحه. وذاك لأنه أرد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه، كأنه كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشّفاء مع القرب، حتى كأنّه قال: أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني، وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة، إلا بحذف المفعول البتّة، فاعرفه.
وليس لنتائج هذا الحذف، أعني حذف المفعول، نهاية، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة، وإلى لطائف لا تحصى.
وهذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار والحذف يسمى «الإضمار على شريطة التفسير»، وذلك مثل قولهم: «أكرمني وأكرمت عبد الله»، أردت:
«أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله»، ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر، وشيء لا يعبأ به، ويظنّ أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه. وفيه- إذا أنت طلبت الشيء من معدنه- من دقيق الصّنعة ومن جليل الفائدة، ما لا تجده إلا في كلام الفحول.