- و -
علم جديد اهتدى إليه، واستدركه على من سبقه، وشق له الطريق ومهده، ولكن اخترمته المنية قبل أن يحقق ما أراد. وأرجح أيضًا أن السر في العجلة التي صرفته عن التبويب والتقسيم والتصنيف، وأوجبت أن يبنى الكتاب هذا البناء العجيب، هو فيما أظن، أن طائفة من المعتزلة، من أهل العلم، في بلدته جرجان وفي زمانه، كان لهم شغف ولجاجة وشغب وجدال ومناظرة في مسألة "إعجاز القرآن"، واتكأوا في جدالهم على أقوال القاضي عبد الجبار التي جاءت في كتابه "المغني"، والتي ذكرت مواضعها آنفًا، وشققوا الكلام فيها، وكانوا كما وصفهم عبد القاهر بقوله: "فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللَّفظِ"، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم منها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللفظ". فقد بلغ من ملكيته لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم، وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء ولا صدر، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشبه، وتسرع إلى القول المموه"، [دلائل الإعجاز: 458].
ومن الدليل أيضًا على العلاقة الوثيقة بين كتاب عبد القاهر، وأقوال القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني"، أي بين كتابه وبين المعتزلة، أن كتابه خلا من ذكر "الصرفة"، وهي أشهر أقوال المعتزلة؛ لأنها من اختراع شيخهم القديم النظَّام، إلا في موضع واحد من الكتاب كله [دلائل الإعجاز: 390]؛ وذلك لأن القاضي عبد الجبار نفسه، وهو إمام المعتزلة في زمانه، رد مقالة "الصرفة" ونقضها في كتابه [المغني: 16: 323 - 328]، فأغفلها عبد القاهر أيضًا، وخصهم برسالته "الرسالة الشافية" الخارجة من كتاب دلائل الإعجاز، والتي نشرتها ملحقة بالكتاب.