- هـ -
أيضًا في هذا الموضع الذي ذكر فيه القاضي المعتزلي "إعجاز القرآن"، كالقول في "جزالة اللفظ"، حيث يقول القاضي: "ولذلك لا يصح عندنا أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النظم دون الفصاحة، التي هي جزالة اللفظ وحسن المعنى" [المغني16: 198 وما قبله]، فيذكرها عبد القاهر في كتابه ثم يقول: "وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أن يحفظوا كلامًا للأولين ويتدارسونه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يُسألوا عنه، بيانٌ وتفسير إلا "علم الفصاحة" .... فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إن ذلك يكون بجزالة اللفظ" وإذا هم تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ، وعلى وجهٍ دونَ وجهٍ"، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون "الجزالة" بشيء"، [دلائل الإعجاز: 456].
ولم أرد بهذا الاستقصاء، ولكني أردت أن أنبه إلى علاقة لا ينبغي إغفالها أو التهاون فيها، وهي هذه العلاقة بين كلام عبد القاهر، وكلام القاضي عبد الجبار، ذلك أن عبد القاهر منذ بدأ في شق طريقه إلى هذا العلم الجديد الذي أسسه، كان كل همه أن ينقض كلام القاضي في "الفصاحة"، وأن يكشف عن فساد أقواله في مسألة "اللفظ"، بالمعنى المؤقت المحدد في كلامه في كتابه "المغني"، دون المعنى المطلق لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ ونطْقُ لسانٍ. وإغفال هذه العلاقة يؤدي -أو قد أدى- إلى غلط فاحش في فهم مسألة "اللفظ" و "المعنى" عند عبد القاهر في كتابه هذا. فلا "اللفظ" فهم على حقيقته عند عبد القاهر، ولا "المعنى" أيضًا عرف على حقيقته عنده.
وأنا أرجح أن عبد القاهر كتب كتابه هذا في أواخر حياته، بدليل ما هدتنا إليه النسخة المخطوطة من "الدلائل"، التي رمزت إليها بالحرف "ج"، كما سأبينه فيما بعد، وأنه كان يوشك أن يعيد النظر في كتابه؛ ليجعله تصنيفًا في