وبينَه، وأخذَ به إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ، فاستبدَلَ بالنِّفار أُنْساً، وأراكَ مِنْ بَعْد الإِباء قَبُولاً.
644 - ولم يكنِ الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في أصنافِ العلومِ الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ طريقاً في الخفاء من هذا. وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك، وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إِذا قلتَ قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنت بالذيلا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض فيه من شك1، كما قال أبو نواس:
أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رَسْمِ ... تغص به عيني ويلظفه وهمي
أنت صُوَرُ الأشياءِ بَيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ، وعِلْمي كَلاَ عِلْمِ2
645 - وإنكَ لتنظرُ في البيتِ دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى أنه فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكنْ قد علِمْتَه، مثال ذلك بيت المتنبي:
خطأ خفي في "النظم":
عَجَباً لهُ! حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ مِنْ عاداتِها3
مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرؤه فلا نُنْكِرُ منه شيئاً، ولا يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بانَ بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقولَ: "ما حفظُ الأشياءِ من عادتها"، فيضيفُ المصدرَ إلى المفعولِ، فلا يَذكُر الفاعلَ، ذاك لأن المعنى على