بسم الله الرحمن الرحيم
بيان في "النظم"، ودخول الشبهة في أمره، وأن مرده إلى "الذوق" 1:
642 - أعلمْ أنك لن تَرى عجَباً أعْجبَ من الذي عليه الناسُ فِي أمرِ النَّظْم"، وذلك أنه ما مِن أَحدٍ لهُ أدنى معرفةٍ إِلاَّ وهو يَعلمُ أن ههنا نظْماً أحْسَنَ من نظْمٍ، ثم تراهُمْ إذا أنتَ أردْتَ أن تُبَصْرَهم ذلك تَسْدَرُ أعينُهُم2، وتضلُّ عنهم أفهامُهم. وسببُ ذلك أنهم أولُ شيء عَدِموا العِلْمَ به نفسَه، من حيث حَسِبوه شيئاً غيرَ تَوخِّي معاني النحو، وجعلوه يَكونُ في الألفاظِ دونَ المعاني. فأنتَ تَلْقى الجَهْد حتى تُمِيلَهم عن رأيهم، لأنكَ تُعالِجُ مرَضاً مُزْمناً، وداءً متمكِّناً. ثم إِذا أنتَ قُدْتَهم بالخَزَائم إلى الاعترافِ بأنْ لا معنى له غيرُ توخِّي معاني النحو3، عَرَض لهم من بَعْد خاطِرَ يَدهَشُهُمْ، حتى يكادوا يَعودون إلى رأسِ أمرهم. وذلك أنَّهم يَرَوْنَنا ندَّعي المزيةَ والحُسْن لِنَظْم كلامٍ من غير أن يكونَ فيه من معاني النحو شيءٌ يُتَصوَّرُ أنْ يتفاضَلَ الناسُ في العلمِ به، ويرونَنا لا نَستطيعُ أن نضَع اليَدَ من معاني النحو ووجوه على شيء تزعم أنَّ مِنْ شأنِ هذا أنْ يُوجِبَ المزيَّةَ لكلِّ كلامٍ يكونُ فيه، بل يَرَوْننا ندَّعي المزيةَ لكلِّ ما ندَّعيها له مِن معاني النحو ووجوه وفُروقهِ في موضعٍ دونَ مَوْضِعٍ، وفي كلامٍ دون كلامٍ، وفي الأقلِّ دونَ الأَكثرِ، وفي الواحدِ من الأَلْف. فإِذا رأَوْا الأمرَ كذلكَ، دخلَتْهم الشُّبْهَةُ وقالوا: كيف يصَيرُ المعروفُ مَجهولاً؟ ومِنْ أَين يُتصوَّر أن يكونَ للشيءِ في كلام مزيةٌ عليه في كلامٍ آخَر، بعْدَ أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة.