قال: فلما انصرفتُ حدثتُ أبي1، قال: أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكَرَ على ذي الرُّمة ما أنكر2، وأخطأ ذو الرُّمة حين غيَّر شِعْرَه لقولِ ابن شبرمة، إِنما هذا كقولِ اللهِ تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وإِنما هُوَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ3.
318 - واعلمْ أنَّ سبَبَ الشُّبهةِ في ذلكَ أَنَّه قد جَرَى في العُرفِ أن يقالَ: "ما كادَ يفعل" و "لم يكدْ يفعلُ" في فعلٍ قد فُعِلَ، على معنى أنَّهُ لم يَفْعل إلاَّ بعْدَ الجهدِ، وبعد أن كان بعيدًا الظنِّ أنْ يَفْعَله، كقولِه تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، فلمَّا كانَ مجيءُ النفيِ في "كادَ" على هذا السبيلِ، توهَّم ابنُ شُبْرُمةَ أنَّه إِذا قال: "لم يكَدْ رسيسُ الهوى مِن حبِّ ميَّةَ يبرحُ" فقد زَعم: أنَّ الهَوى قد بَرِح، ووقعَ لذي الرُّمة مثلُ هذا الظنِّ.
وليس الأمرُ كالذي ظنَّاهُ، فإنَّ الذي يقتضيهِ اللفظُ إذا قيل: "لم يكد يفعل" و "ما كادَ يَفعل"، أنْ يكونَ المرادُ أنَّ الفعلَ لم يكنْ من أصْله، ولا قارَبَ أن يكونَ، ولا ظُنَّ أنَّه يكونُ. وكيفَ بالشكِّ في ذلك؟ وقد عَلِمْنا أنَّ "كادَ" موضوعٌ لأنْ يَدُلَّ على شدَّةِ قُرْب الفِعلِ من الوقوعِ، وعلى أنه قد شارَفَ الوجودَ. وإِذا كان كذلك، كان مُحالا أن يوجِبَ نَفْيُه وجودَ الفعلِ، لأنه يؤدِّي إِلى أن يوجِبَ نفيُ مقاربةِ الفعلِ الوجودَ وجودَه4، وأن يكون قولك: