مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرأه فلا نُنْكِرُ منه شيئاً ولا يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بان بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ، وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: (ماحِفْظُ الأشياءِ من عاداتها)؛ فيضيفُ المصدرَ إلى المفعولِ فلا يَذكُر الفاعل، ذاك لأنَّ المعنى على أنه ينفي الحفْظَ عن أنامله جملةً، وأنه يزْعُم أنه لا يكون منها أصْلاً. وإضافَتُه (الحفظ) إلى ضميرِها في قوله: (ما حفظُها الأشياءَ) يقتضي أن يكون قد أثبْتَ لها حِفْظاً. ونظيرُ هذا أنك تقول: (ليس الخروجُ في مثلِ هذا الوقتِ من عادتي) ولا تقولُ: ليس خُروجي في مثلِ هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: (ليس ذمُّ الناس مِنْ شأني) ولا تقول ليس ذمي الناسَ مِنْ شأني. لأن ذلك يُوجِبُ إثباتَ الذمِّ ووجودَه منك. ولا يصِحُّ قياسُ المصْدَرِ في هذا على الفعل، أعني: أنه لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن يُقال: (ما مِن عادتها أن تَحْفظَ الأشياءَ) كذلك ينبغي أن يجوزَ "ما من عادتها حفظُها الأشياء" ذاكَ أنَّ إضافة المصدرِ إلى الفاعل يقتضي وجودَه وأنه قد كان منه. يُبيِّنُ ذلك أنك تقول: (أمرْتُ زيداً بأن يَخْرج غداً) ولا تقول: (أمرته بخروجه غداً).
ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله [من البسيط]:
ولا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فتُشْمِتَهُ ... شكْوى الجريحِ إلى الغِربانٍ والرَّخَمِ
وذلك أنك إذا قلت: (لا تضْجَرُ ضجَرَ زيدٍ) كنتَ قد جعلْتَ (زيداً) يضجرُ ضَرْباً من الضجر مثْلَ أن تجعله يُفرِّطُ فيه أو يُسْرعُ إليه. هذا هو مُوجِبُ العُرْفِ. ثم إنْ لم تعتبِرْ خصوصَ وصْفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضجَرَ على الجملةِ من عادتِهِ، وأنْ تَجعلَه قد كان منه. وإذا كان كذلك اقتضى قولُه:
شكوى الجريحِ إلى الغربانِ والرخَمِ
أن يكونَ هاهنا جريحٌ قد عُرِف من حالِه أن يكونَ له شكوى إلى الغِربان والرخَم، وذلك مُحال. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا أن يقال: لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فإنَّكَ إنْ فعلتَ، كان مثَلُ ذلك مثَلَ أنْ تُصوِّرَ في وهْمِك أنَّ بَعيراً دَبِراً كشَفَ عن جُرْحه ثم شَكَاهُ إلى الغربان والرخَم.