ذاك هو نثر الجرجاني الذي يمتاح من ينابيع العربية التي رعرعتها البيداءُ وحنادسُها، وصحاصح فجرها الفردوسيِّ، ووهبها القرآن من وسيع مجازاته ورفيع توقيعاته ومستدق استداراته، وانسلال معانيه من فروج الكلمات انخطافاً وإيماءً وإيحاءً، ما جعله يمتهد صهوة الكلام فارساً لا يُشق له غبار، وساحراً مِفَنَاً يخلب السمع والأبصار .. لا أقول ذلك هوى طاغياً، فقد أشرت غير مرة إلى تعقيداته وملتبساته وجنوحه إلى التكرار والقصْر المربك .. بل هو أدبه الرفيع، ونثره الأصيل الذي لا مطعن فيه ولا مناص من النظر إليه بتقدير وإعجاب لهذه الدقة المتناهية، وتلك المقدرة المذهلة على التعبير عن دقائق الأفكار، بلغة محبوكة حبكاً يجمع بين السهولة والامتناع، والجزالة والسلاسة، وقوة الدلالة وبُعْد المرام، فيما يشبه المقامة الساخرة حيناً، والرسالة المنضَّدة باحرف من بصيرة نافذة، وعقل نيِّر يرصد مواقع الجمال والقبح، حيناً آخر، والدرس الصفِّي المنهجي المتناهي الوضوح والنتائج، حيناً وحيناً، ويُختم كلام الفصول وأنت شاخصٌ إلى المزيد .. فلا تجد مناصاً من معاودة القراءة واستئناف رحلة التمتع والاستفادة.