ثانياً: جوانب الإغراب

ولا نقصد به الغموض الذي يتحول فيه الكلام إلى التورية والتعقيد، وما يشبه الأساليب الملتوية التي شاعت لدى فريق كبير من شعراء زمانه وكتّابه .. إنما هو استغراب لأشياء لم تجد لديَّ القبول التام والرضى الكلِّي، شأنه في ذلك شأن كل من ترك أثراً كبير الأهمية لا يسلم من النقد والتجريح أو التبخيس أحياناً ممن لم يصادف هوىً في نفوسهم وذوائقهم. ولا أرى سبيلاً لنقد أو تجريح، فدلائل الإعجاز صرْح شامخ في تاريخ الكتابة والعربية.

إن هي إلاَّ نظرات تقديرية تبحث عن مستقرٍّ لها فلا تجد، وهي التي امتلأتْ برغد الطمأنينة والاستقرار، في طول الكتاب وعرضه، من كثرة ما واجهها من بديع الصنع وجليل التصور .. وإليك ما دوَّنه القلم في هذا الجانب ..

* التطرق إلى كل عناصر الكلام لإثبات حكم أو رد حكم.

يسلك الجرجاني في كثير من الأحيان، نحو عرض كل العناصر والأجزاء لإقرار جمال النظم وإثباته فيتطرق إلى كل ما في الشاهد الشعري أو القرآني، من ألفاظ، وتقديم وتأخير، ووجوه إعرابية مختلفة لدرجة يصبح كلُّ ما في البيت أو الآية - بلا استثناء - مدار كلام وإعجاب .. وهذا نوع من لزوم ما يلزم. فهو بغنى عن ذلك كله، وباستطاعته التخير والانتقاء وترك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بتقنية التركيب والأداء، وأكتفي بمثال واحد: وقوفُه عند بيت ابن المعتز، لتأكيده مزيَّة الحسن في النظم لا اللفظ. "مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز:

وإني على إشفاق عيني من العِدى ... لتَجْمحُ مني نظرةٌ ثمَّ أُطْرقُ

فترى أن هذه الطلاوة وهذا الظَّرْفَ - إنما هو لأنْ جعل النظرَ يجمحُ، وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت "وإنِّي" حتى دخل (اللام) في قوله "لتجمحُ"، ثم قوله "مني"، ثم لأن قال: "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثم لمكان "ثم" في قوله: "ثم أُطرق" وللطيفةِ أخرى نصرتْ هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم (إنَّ) وخبرها، بقوله: "على إشفاق عيني من العدي" .. ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015