إنَّ الذين يذهبون إلى جعل الحروف متلائمة في تعادلها مع المعاني، يقعون في صعوبة تحقيق التلاؤم المعنوي مع الألفاظ، فإنَّ المعنى لا يُدرَك بسبب اللفظ، وإنما بسبب التوفيق بين معاني تلك الألفاظ المسجَّعة، وبين معاني الفصول التي جُعلتْ أردافاً لها. ولم يتحقق ذلك إلاَّ بعد أن دخلت في ضروب من المجاز والاتساع والتلطُّف.
* الإبداع الشعري بمعزل عن علوم النحو
حرص أبو بكر الجرجاني في أثناء تأسيسه لموضوعة النظم ونظريته - القائمة على توخِّي معاني النحو وأحكامه بين الكلمات - أن لا يجعل النحو وقواعده أساساً جوهرياً للإبداع الفني، فأظهر تسامحاً في هذا الجانب، ووافق منتقديه على عدم الخوض فيه، اقتناعاً منه بأن طريق الإبداع لا تبدأ بصرف اللغة ونحوها وقواعدها، بل بما هو أعمق وأبعد؛ وهو البعد النفسي الذهني المتكون من عناصر شتى لا تدخل في حصر أو إحاطة .. وقد سبقه إلى ذلك مُواطنُه القاضي الجرجاني (ت 392هـ) الذي اقتفى بدوره خط سلَفه قدامة بن جعفر (ت 337هـ) وكانا قد رأيا أن جمال الصورة الفنية ليس وليد الصناعة الشعرية الحسنة التقسيم، المتكاملة الأوصاف، المتمِّمة لشروط الحسن، بقدر ما هو في القَبول النفسي والتجاوب الروحى، أو ما سمَّيتُه غير مرة بالارتياح الغامض والقبول العفوي الذاتي.
وَرَدَ رأيُ عبد القاهر المعنيُّ هنا، في معرض ردِّه على المتذمرين من التكثُّر والتكلف في البحث ومراعاة مسائل التصريف الموضوعة للرياضة وتمكين المقاييس، وتتبُّعهم [في ذلك] الألفاظ الوحشية، وأن ذلك لا يُجدي إلاَّ كدَّ الفكر وإضاعة الوقت ... قائلاً:
"أمَّا هذا الجنسُ فلسنا نعيبُكم إنْ تنظروا فيه ولم تُعنوا به، وليس يهمُّنا أمره، فقولوا فيه ما شئتم، وضعوه حيث أردتم .. "
ويعرض لمختلف العلل النحوية المشْكُوِّ منها: كالمعتلِّ، وحروف العلة، والإبدال والحذف والإسكان والتثنية وجمع السلامة وإعرابهما والنصب بالجر .. الخ .. فيقول بكثير من المسامحة والتقبل:
إنَّا نسكتُ عنكم في هذا الضرب أيضاً، ونَعْذركم فيه ونسامحكم، على علم منَّا بأنْ قد أسأتم الاختيار، ومنعْتُم أنفسكم ما فيه الحظ لكم، ومنَعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة ... ".