بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ بِالْعِتْقِ عَلَى الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ يَلْزَمُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْعُودِ إِلَى الْمَسِيسِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ قَوْلِ دَاوُدَ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَالْفَرَّاءِ وَفِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَالَ بِهِ شُعْبَةُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا هُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ، فَيُكَرِّرُونَهُ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلٌ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلِ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا آيَةُ الظِّهَارِ، هَلْ كَرَّرَ زَوْجُهَا صِيغَةَ الظِّهَارِ أَمْ لَا، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا.
وَالتَّحْقِيقُ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَمَنْعَ الْجِمَاعِ قَبْلَهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا تَكْرِيرُ صِيغَةِ الظِّهَارِ وَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا سَالِمِينَ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَى بَقَاءِ التَّرْتِيبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:
كَذَلِكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ ... بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يُحْتَمَلْ
وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ: