وَذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذَا التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِّ بِالدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاسْتَظْهَرَ هُوَ خِلَافَهُ، وَرَدَّ التَّخْصِيصَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِأَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى اعْتِرَافِ أَهْلِ النَّارِ جَمِيعًا، بِأَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرُوهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الْآيَةَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى عَاقِلٍ.
أَمَّا الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَقْلٌ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَيَتَحَقَّقُونَ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، لَكِنَّهُمْ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَيْلِ ابْنُ قَاسِمٍ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَرُدُّهُ الْقُرْءَانُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مُصَرِّحَةٍ بِنَفْيِ أَصْلِ النَّذِيرِ عَنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [36 \ 6] .
وَقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [28 \ 46] .
وَقَوْلِهِ: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [34 \ 44] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ مَعْذُورُونَ عَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - إِلَى قَوْلِهِ - مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [9 \ 113] .
مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِالنَّارِ وَلَوْ مَاتُوا كُفَّارًا إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كَأَبِي طَالِبٍ، وَحَمَلُوا