وَآخَرِينَ إِلَى الشَّقَاوَةِ.

وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْعِبَادَةَ بِإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَيُوَفِّقُ مَنْ شَاءَ بِإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فَيَعْبُدُهُ وَيَخْذُلُ مَنْ شَاءَ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الْعِبَادَةِ.

وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [4 \ 64] ، فَعَمَّمَ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا لِيُطَاعَ وَبَيَّنَ التَّخْصِيصَ فِي الطَّاعَةِ بِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ، بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ فَالدَّعْوَةُ عَامَّةٌ وَالتَّوْفِيقُ خَاصٌّ.

وَتَحْقِيقُ النِّسْبَةِ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ، فَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا، لِأَنَّ كُلَّ مُرَادٍ شَرْعًا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ إِذَا أُرِيدَ كَوْنًا وَقَدَرًا، كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَيْسَ يُوجَدُ مَا لَمْ يُرَدْ كَوْنًا وَقَدَرًا وَلَوْ أُرِيدَ شَرْعًا كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَكُلُّ مُرَادٍ شَرْعِيٍّ حَصَلَ فَبِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ مُرَادٍ كَوْنِيٍّ حَصَلَ مُرَادًا فِي الشَّرْعِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا وَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ أَخَصُّ مُطْلَقًا، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ الْعِبَادَةَ شَرْعًا وَلَمْ يُرِدْهَا مِنْ كُلِّهِمْ كَوْنًا وَقَدَرًا، فَتَعُمُّ الْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ عِبَادَةَ جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وَتَخْتَصُّ الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ بِعِبَادَةِ السُّعَدَاءِ مِنْهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الدَّعْوَةَ عَامَّةٌ وَالتَّوْفِيقَ خَاصٌّ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [10 \ 25] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَدْعُو الْكُلَّ وَيَهْدِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ.

وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ بَلْ هِيَ

الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، كَمَا بَيَّنَّا إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارٍ، وَالثَّانِيَةَ أَعَمُّ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، كَمَا بَيَّنَّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015