كما يقال فيضعه على الرمال المحرقة ويضع على صدره الصخرة العظيمة، ويقول له: «لاَ أَدَعَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَإِلَهِ مُحَمَّدٍ»، فما يزيده ذلك إلا استمساكًا بدينه وثباتًا على عقيدته فلا ينفك أن يقول: «أَحَدٌ أَحَدٌ» فتمتزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، فتغلب حلاوة الإيمان مرارة العذاب، فكأنما العذاب يصير عليه بَرْدًا وَسَلاَمًا.
والأسرة الياسرية: عمار بن ياسر، وأبوه، وأمه قد تحملوا من العذاب والآلام ما لم تتحمله أسرة، أما أبوه، وأمه فقد مَاتَا تحت وطأة العذاب، وقد طعن أبو جهل - عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ - أُمَّهُ بحربة في ملمس العفة منها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام، ثم لم يلبث أبوه أن لحق بها شهيدًا في سبيل عقيدته.
وكان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر عليهم وهم يعذبون في الله فما يملك لهم إلا أن يقول: «صَبْرًا آلَ ياسر، فإن مَوْعِدُكُمْ الْجَنَّةُ» فتكون هذه الكلمات المؤمنة بَرْدًا وَسَلاَمًا على قلوبهم.
وكان مما عُذِّبُوا به أنه كانت تحمى لهم الدروع من الحديد في النار فيلبسونهم إياها ويطول العذاب بعمار بن ياسر حتى كان لا يدري ما يقول، فيظهر كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، وَيَجِيءُ عَمَّارُ - وَهُوَ يَبْكِي - إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: «شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ، نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: «كَيْفَ كَانَ قَلْبُكَ؟» قَالَ: «مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ»!! فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: «إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ»!!.
ولهج بعض الناس بأن عمارًا قد كفر، ولكن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ينطق عن الهوى قال: «كَلاَّ إِنَّ عَمَّارًا مُلِئَ إِيمَانًا مِنْ مَفْرَقِ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمُصِ قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ»!!!.
ثم ينزل الوحي بشهادة السماء على صدق عمار، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا