هذه المبادئ أو الجواهر قد حددت تحديدًا ماديًّا، ولما كان تعريفها، وشكل تطبيقها قد تركا صراحة للذوق السليم، فإن القضية تصبح قضية الحكم، والتذوق الشخصي.
بل إن بعض واجباتنا التي نالت تحديدًا عدديًّا معينًا -لم تنله إلا من بعيد، وفي خطوط عريضة، وبهذا وضعت بين حدين متباعدين، كيما تتجنب الطرفين المتناقضين فحسب، حين نمارس نشاطنا, أي: تتجنب السقوط أسفل مما تتطلب الفضيلة، أو التبعثر دون جدوى، ومن غير حدود. وبين هذين الطرفين تدعى الحرية الفردية إلى أن تمارس ذاتها في البحث عن درجات، تتزايد رفعة، ولكنها دائمًا متوافقة مع المقتضيات المختلفة للحياة الأخلاقية.
هذه الطريقة التي يقدم القرآن لنا بها قاعدة الواجب ليست ميزتها فقط أن تخفف إصر التكليف، وأن تحمي قيمة الشخصية الإنسانية، بدلًا من أن تحولها إلى مجرد آلة. وليست ميزتها فقط أنها قد أتاحت إشباعًا عادلًا ومعقولًا لاتجاهين متعارضين في الإرادة الفردية: أعني حاجتنا المزدوجة إلى المطابقة، والمبادرة -ولكنها ذات أهمية عظمى في المستوى الاجتماعي، فبفضلها استطاع القرآن -كما قلنا- أن يبدع إطارًا متجانسًا بقدر يكفي لتكوين هذا الوسط الأخلاقي، المشترك بين جميع أعضاء الجماعة، ولكنه أيضًا متنوع بقدر يكفي لتدخل في نطاقه درجات كثيرة للقيمة.
وأهم العوامل في هذا النجاح يتمثل في أن جميع القواعد أو أغلبها، تشتمل على أمرين: "أداء واجب"، و"تحقيق خير"، أو بالأحرى: أداء "واجب جوهري"، و"واجب كمال".
ويبدو القرآن في النقطة الأولى متشددًا، لا يقبل أية مساومة، ولكنه في الثانية تتحول صرامة الأمر إلى حث وتشجيع.
وهكذا يجب أن تتضمن أنظمتنا الاجتماعية كلها جانبًا ثابتًا، محافظًا،