قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، وهو الذي قدر سبحانه أن يضلوا عن سبيله ابتلاءً وامتحاناً، وكما ذكرنا أنَّ اكتمال عبودية أهل الإيمان بأن خلق الله الكفرة لكي يتمموهم عبوديتهم لله، فأوجد الله عز وجل من يضل عن سبيله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنون أنه كفى بالله هادياً ونصيراً، وليعلم أهل الإيمان أن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله غيب السموات والأرض، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
فالله سبحانه وتعالى هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، ولو شاء لجعلهم جنوداً له عز وجل، ولكنهم هانوا عليه وصاروا في أحقر صورة، فجعل الله حياتهم لغيرهم، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وجعل الله عز وجل إضلالهم عن سبيل الله سبباً لكمال أهل الإيمان، وزيادة إيمانهم وتسليمهم بقدرته وعلمه وحكمته وعدله عز وجل، فهو ما وضع هذه الأشياء إلا في مواضعها، وهو سبحانه وتعالى ما قدر إضلالهم عن سبيل الله، وجعلهم يضلون عن سبيل الله إلا أن ذلك يناسبهم، وهم قد فعلوه بأنفسهم، وهذا فيه شهود القدر، فموسى عليه السلام يشهد القدر في العطايا والأموال والزينة، ويشهد القدر في أفعال العباد، يشهد عطية الله عز وجل في الأموال والزينة، ويشهد أنه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله سبحانه قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا)) أي: أعطيتهم ليضلوا، وهي حكمة بالغة له سبحانه وتعالى.
وكان فرعون قد بلغ في الإجرام والعتو ما جعل موسى يدعو عليه ألا ينتفع بالآيات، وذلك لخبثه، ولربما يكون قد أوحي إليه أن فرعون لن يؤمن؛ ولذلك دعا عليه، وإن كان الله قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما اختار لإبراهيم عليه السلام في أن يتأنى ويرجو أن يخرج الله من أصلاب الكفرة من يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولكن موسى دعا دعوة مشروعة على فرعون وملئه في أن يطمس على الأموال، فلا ينتفع بها، قال تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حتى تقسوا والعياذ بالله، والقسوة من شدة الظلم والعدوان، تحصل للإنسان بالتدريج ثم تصل إلى درجات أقسى من الحجارة وأشد والعياذ بالله، وعند ذلك لا تنتفع بالموعظة، ولا تشهد آية، ولا تؤثر فيها معجزة، ويرون الآيات وهم عنها معرضون غافلون.
نعوذ بالله.
قوله تعالى: ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) أي: القسوة والعياذ بالله، فشيء فظيع إذا أصاب القلب الإنساني ما يدمره تدميراً، يشد عليه فلا ينتفع بشيء.
قوله تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)) أي: فلا ينتفعوا بها، ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، فأجيبت دعوة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وهلك فرعون وآله عدلاً منه وحكمة سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدميره في تدبيره واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
اللهم نجِّ المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك والدعاة إليك في كل مكان.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.