قال تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) يقول ابن القيم: ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين، قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا، ومثلوا بهم، ونالوا منهم ما نالوه؟ فقال: لولا عفوه عنهم لاستأصلوهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.
فهو سبحانه وتعالى جعل في قلوب المشركين الانصراف، مع أن لحظات الهزيمة كانت لا تمنع من شيء، وكان من الممكن أن يدخلوا المدينة فعلاً؛ لأنه ليس هناك من يدفع أو يقاتل، فقد كان حول النبي صلى الله عليه وسلم عدداً قليلاً جداً يدافع عنه، ويقاتل قتالاً مستميتاً كما يقولون، وقد قتل بين يديه سبعة للدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك ممن قاتل حتى أوجب في يوم واحد، كـ طلحة استوجب الجنة في قتال يوم أحد رضي الله عنه، فكان الأمر أمراً عظيماً، ومع ذلك صرف الله عز وجل المشركين عفواً عن المؤمنين.
قال ابن كثير رحمه الله: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قمئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام أي القتل، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) فإنه له أسوة بهم في الرسالة، وفي جواز القتل عليه، وأن القتل ليس مما يعصم منه الأنبياء.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، جزاء ما وهنوا عند القتل، فقد قتل ولكنه ليس عنده وهن، وإنما يأمر غيره بالثبات فنزل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
ثم قال تعالى منكر على من حصل له ضعف: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) أي: رجعتم القهقرى كما ذكرنا أن الانقلاب هو ترك الواجب، إما بترك الدين بالكلية كالمنافقين، وإما بترك بعض الواجب كالقتال.
قال تعالى: ((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكر ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن عائشة: أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسبح، فكان في أطراف المدينة ضاحية من ضواحي المدينة، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، أي: مغطى صلى الله عليه وسلم بثوب، فكشف عن وجهه ثم انكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) إلى قوله: ((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
قال: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -وقع في الأرض- حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطبراني بسنده عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ووالله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني؟ يقصد -إن صح الأثر وإلا ففيه ضعف- وارثه أي: وارثه في العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وأخوه في الله في الإسلام صلى الله عليه وسلم، ورضي عن علي، ووليه قريبه، وابن عمه رضي الله عنه.