وقد يكون الإنسان أسيراً في الظاهر ذليل مهان، ولكنه لا يرضى أن يتكلم بالباطل، ولا أن يقر بالمنكر، ولا يرضى بما يريده الأعداء، فهو في الحقيقة عزيز كريم.
ومن أمثال هؤلاء: خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب عند قريش، وهم يريدون أن يحصلوا منه على كلمة يقدح فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى ولو تمنى أن يكون مكانه، قال أبو سفيان: أتتمنى أن تكون في بيتك وأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فيقول: لا أتمنى أن أكون في أهلي وفي بيتي ومحمد صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة فما فوقها، فكان موقفاً عزيزاً، يدل على عزة وعدم استكانة، رغم أنه مصلوب، فيتركه المشركون يصلي ركعتين، فيصلي ويطيل، ويقول: لولا أن يظنوا أنه جزع من الموت لأطال، ثم يقول وهو مقبل على الموت: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع عزة عجيبة الشأن.
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفر أصحابه عنه في غزوة حنين فينزل من على بغلته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، فهو يعرف الناس بنفسه، فمن أراد أن يناله بسوء فليأت إليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل الأنبياء والرسل في فترات الاستضعاف أعزة، رغم أنهم غير ممكنين، ورغم أنهم كان ينالهم من الضرب والجراح، والأذى والشتم والسب، وأحياناً الحبس والسجن، وأنواع البلاء المختلفة: كالإلقاء في النار والقتل، ولكنهم ثابتون لا يركنون إلى الذين ظلموا، ولا يقبلون باطلهم، ولا يرضون بمنكراتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في حياة المؤمن.
فليس العز والذل مرتبط ببدن الإنسان، ولكنه بروحه وثباته على دينه ومنهجه وعقيدته، فكم من أحرار الأبدان أسرى الأرواح، وكم من أسرى الأبدان أحرار الأرواح، أرواحهم طليقة حرة، حررها التزامها بشرع الله عز وجل من عبودية البشر، ووجدت سعاة عظيمة هائلة في القرب من الله عز وجل، فتجاوزت حدود هذه الأرض بما فيها من قوة ظاهرة للكفرة والظلمة، تجاوزتها وارتفعت، ورأتها ذرة صغيرة في كون واسع فسيح لا ملك فيه إلا لله عز وجل، حقيقة يقينية قطعية، ما أن ترتفع الأنظار عن الأرض إلا وتراها بينة جلية.
لكن أكثر الناس أبدانهم وأرواحهم حبيسة الأرض، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، وتسلط الشيطان عليهم حتى جعلهم لا يرون إلا موازين الكرة الأرضية، رغم أن الموازين في داخل هذه الكرة الأرضية -عند حقيقة التأمل- ليست ملك البشر، ولكن أكثرهم لا يرون إلا ما يحسون من شهوات، من أموال ومن أمور ظاهرة.
ولكن أرواح المؤمنين انطلقت فوجدت كوناً فسيحاً واسعاً، وترسخت في قلوبهم أن الله سبحانه وتعالى هو الملك، فقالوا: ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سبحانه الملك الحق، ولذا لم يخضعوا لغيره، ولم يذلوا ولم يستكينوا إلا له سبحانه وتعالى، وأبوا أن يستكينوا للعدو، وأبوا أن يقولوا باطلاً، وأن يعاونوا العدو على منكره وكفره وشركه، وأن ينافقوا كما نافق المنافقون، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.
قال عز وجل: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)) أي: وكم من نبي وهم كثير، ((قَاتَلَ مَعَهُ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ) والقراءتان متواتران، وكلاهما لهما معنى صحيح واجب التدبر، فقد قاتل الأنبياء طوائف وجماعات كثيرة، وقتل منهم جماعات، وقُتل بعض الأنبياء، وقتلت جماعات من المؤمنين الذين معه، ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ معه ربيون كثير) قُتِل هو أي النبي، وكان معه ربيون قتلوا وبقيت جماعة: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا))، ما وهن المقتولون عند ملاقاة القتل، بل تلقوه بالاستبشار والترحيب به، ولسان حالهم يقول: فزنا ورب الكعبة، وقالوا: اليوم نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
فكانوا يقبلون عليه، وما وهنوا عند الموت وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهن الباقون، وما تعلقوا بالدنيا، وما ضعفوا في القيام بالواجب عليهم من الالتزام بشرع الله عز وجل، وما استكانوا لعدوهم، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ))، والمؤمنون دائماً ما يسألون ويبحثون عما يحبه الله، فإذا علموا ذلك طاروا إليه.
فأعظم ما يأخذ بقلوبهم إلى الله عز وجل أن يعلموا أن الله يحب من يفعل أفعالاً معينة، فهو عز وجل يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المحسنين، وانظر وتأمل جمع الله بين الصبر والإحسان في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146 - 148].
فالصبر والثبات هو الذي يحرك قلوبهم، والصبر في هذا المقام صبر يجمع كل أنواع الصبر: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، والتي هي: موالاة أهل الكفر وطاعتهم، وهو مقام يقع فيه الكثيرون من الذين يبيعون دينهم، ويصيرون من جنود الكفار، فبالأمس كانوا جنوداً -فيما يبدو- للحق، ثم لما انتصر الباطل صاروا جنوداً له، وكم من الناس مستعد أن يكون كذلك، وأن يطيع الكفرة إلى درجة الحرب في صفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودائماً يظهرون وخصوصاً بعد الهزيمة ونعوذ بالله.
فلذلك المؤمنون صبروا على المعصية، وعن هذا الضلال والكفر والنفاق.
وصبروا على الأقدار المؤلمة، وعلى ما يصيبهم من آلام في مقام نصرة الدين وفي سبيل الله، وخصوصاً عند حصول الهزيمة، فإنها تصيب الناس بأنواع من الآلام الكثيرة، ومجرد رؤية البلاد والعباد يسقطون في أيادي الأعداء هو أمر في غاية الألم وغيظ للمؤمنين.