مرض الاستكانة لغير الله تعالى

والمرض الثالث: مرض الاستكانة، وهو: الخشوع والخضوع والذل للعدو، ومظهر ذلك: طاعته التي أتت الآيات تحذر منها تصريحاً ونصاً، فالله عز وجل ابتلانا بالهزائم والانكسار لننكسر له عز وجل، ولنلتجئ إليه، ولنتضرع إليه، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والله عز وجل ذم من لم يستكن له، ومن لم يتضرع له، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76].

فتبين أن في هذا المقام نوعان من الاستكانة: استكانة محمودة، وهي استكانة لله عز وجل، وشعور بالانكسار لله سبحانه وتعالى، والضعف والعجز وطلب القوة منه سبحانه وتعالى، والشعور بالضعف والعجز وأنه لا قوة له إلا بالله، وأنه لا يثبت إلا أن يثبته الله، وهذا مقام أهل الإيمان الذين امتدحهم الله عز وجل حين قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] وهذه الاستكانة المحمودة.

أما الاستكانة المذمومة، فهي التي قال الله عز وجل نافياً إياها عن المؤمنين من أتباع الأنبياء: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] وهذا المقام، وهذه الأحوال نصيبها وحظها من العبودية عبودية الصبر، وعدم الاستكانة للعدو، والاستكانة للعدو قد تقع للإنسان وهو في الظاهر ممكن ومتسلط على غيره، وكبير يفعل في قومه ما يشاء، وهذه هي التي تحصل من المنافقين الذين يبتغون العزة بموالاة الكافرين، ويتابعونهم على باطلهم، ويطيعونهم في أوامرهم التي هي حرب للدين، والتي هي بغض لما أنزل الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] فيكون هذا الأمر موجباً لارتدادهم عن الدين على أدبارهم، نعوذ بالله من ذلك، وموجباً لحبوط أعمالهم؛ فإن موالاة الكافرين وطاعتهم تجلب الخسران وتجلب الضياع والعياذ بالله، وتجلب ضياع الدنيا والآخرة، وكما ذكرنا يلقي العدو الفتات ويأخذ حتى دنيا هؤلاء القوم، ولا يترك لهم شيئاً، فلا يظفرون لا بدين ولا دنيا، وإنما يبوءون بالذل والهوان والخسران المبين نعوذ بالله من ذلك.

هذه الاستكانة للعدو قد تقع لإنسان يكون في الظاهر على أنه حر طليق، وكبير وزعيم، وملك على قومه، ولكنه في الحقيقة في منتهى المهانة، وذلك أنه يستمر على الباطل، فيطيع بالمنكر ويطيع في الكفر والنفاق، وينشر ما يريده الأعداء والعياذ بالله، فيترك منهجه ودينه والتزامه، ويطيع في الكفر والفسوق والعصيان، نعوذ بالله من ذلك.

والاستكانة مرض من أمراض الشعوب المهزومة، والتي غالباً ما تقع عقب الهزائم العسكرية، وربما تقع بعد مدة، بعد عدة أجيال أو عدة سنوات، أو ربما بعد العشرات من السنين، فيخرج من يتكلمون باسم الناس وهم في الحقيقة يتكلمون بلسان العدو والعياذ بالله.

وقد وقع هذا في تاريخ المسلمين مرات عديدة عندما تقع هزيمة، ثم يقع بعد ذلك من يخرج ويروج لفكر ومناهج وحضارة الأعداء، وفي نفس الوقت ربما يزعم معاداة الأعداء، حتى يكون له منزلة لدى قومه، وحتى يتصدر ويرأس عليهم، ثم بعد ذلك يسوم قومه سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذه الاستكانة المذمومة، وهذه الطاعة المحرمة التي حذر الله عز وجل منها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015