وإذا أيقنت أن عملك مكتوب أيضاً فانظر إلى الطاعات واعلم أنها فضل من الله عز وجل، وانظر إلى المعاصي وتب منها إلى الله ليصح لك احتجاجك بالقدر، ولا تقل: أن الله كتب علي المعاصي قبل أن أولد، بل قل الكلام الطيب أولاً من أجل أن تقبل هذه الحجة، فإن سيدنا آدم عندما قال الكلام الطيب بعدما تاب قبلت توبته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتج آدم وموسى عند ربهما فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خيبتنا ونفسك، وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله على الناس برسالته وكلامه، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين سنة، قال: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم، قال: فكيف تلومني على عمل كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى، فحج آدم موسى) حُجَّ أي: غلبه، وهو حديث متفق على صحته، وهذا الحديث عظيم القدر؛ فهو يدلنا على الزمن الذي يصح الاحتجاج فيه بالقدر على المصيبة، فنزول الإنسان إلى الأرض كان مصيبة، وسيدنا آدم لم يختبره، ولكنه تسبب فيه بالتأكيد بالمعصية التي عملها، وسيدنا موسى كان يلومه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، لكن سيدنا آدم ليس له دخل في المصيبة وليس هو الذي اختار هذه العقوبة، وقد تاب إلى الله من المعصية، فصارت المعصية بعد التوبة بمنزلة المصيبة، فللإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا المعائب، أما أن يموت قبل التوبة فلن يقبل منه الاحتجاج بالقدر ولو احتج خمسين مرة؛ لأنه يريد أن يلغي مسئوليته ولن تلتغي المسئولية، فالقدر لا يلغي المسئولية؛ لأن الله قدر أن تكون لك مسئولية، فالذي يعمل معصية يقول: لو أن الله يريد أن يهديني لهداني، ادع لنا أن يهدينا الله يا شيخ! فهذا يحتج بالقدر من أجل أن يقول: أنا خالي المسئولية، أنا لا دخل لي في ذلك، وهذا مكتوب علي، صحيح أنه في الحقيقة مكتوب عليك، لكنك تعمله بإرادتك، مكتوب عليك وأنت تعمله بمسئوليتك وبقدرتك التي خلقها الله لك، فأنت تريد أن تلغي المسئولية، وهذه في الحقيقة كلمة حق يراد باطل، فالمشركون قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] والله قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107]، فقد رد الله عليهم كلمتهم؛ لأنهم أرادوا بها عدم الالتزام بالدين، أرادوا بها عدم الإيمان، ويقولون: إن ربنا راضٍ بهذا، لا، فربنا لا يرضى بذلك، ومن أجل ذلك قلنا في المرتبة الرابعة في أول الكلام: إن مع كونه عز وجل قدر المقادير وأراد وجود الخير والشر فقد أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، وهو يحب الإيمان ويحب المتقين ويحب المؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر، إذاً: فهناك أمر شرعي غير الأمر الكوني، وليس شرطاً أن يجتمعا، بل يجتمعان ويفترقان، فلذلك المحبة والرضا من الله تابعة للأمر الشرعي، فالذي يلتزم بالأمر الشرعي يحبه الله، والذي يخالف الأمر الشرعي يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وكونه قدره فلأن كل شيء بقدر، ولكن لا تحتج بالقدر على ذنب أو معصية لم تتب منها، لكنك إذا تبت إلى الله فقد ألغيت عنك المسئولية فعلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ثم يأتي بعد التوبة الصادقة الخوف من الله جل وعلا، لأن التوبة لا تكون توبة نصوحاً ومقبولة مع وجود التقصير، فإذا كانت توبة نصوحاً ومقبولة فلك أن تحتج بالقدر إذا لامك أحدهم، لكن الكفار احتجوا بالقدر في الدنيا، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، واحتج إبليس كذلك بالقدر، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ولم ينفعه الاحتجاج، بل كان {مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18] فإياك أن تكون مثل إبليس في الطريقة، وانتبه فإنك ستحتج ولن يقبل منك احتجاجك، كذلك الحال في من يجيب في الامتحان إجابة خاطئة ويقول: هذا قضائي، فحاله كحال المحتج بالقدر في عمل المعصية وهو لا يريد أن يتوب منها، فإن مصيرها هو السقوط لا محالة، كما قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:54 - 56] فالندم لا ينفع إلا في الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، لكنك ستتحسر يوم القيامة إن لم تكن توبة مقبولة، ولذلك بادر بالتوبة قبل الغرغرة، يقول تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]، ولن تنفع هذه الحجة، فالتوبة في هذا الوقت لا تنفع، ثم يحتج بحجة ثانية، يقول تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وهذه الحجة لن تقبل كذلك، {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] وهذه الحجة لن تقبل أيضاً، ولن ترجع إلى الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59]، والعياذ بالله، إذاً: فانت حين ترى العذاب وتحتج بالقدر فلن يقبل منك هذا الاحتجاج، وستسألهم الملائكة عند دخولهم النار كذلك ولن يقبل منهم الاحتجاج بالقدر، كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8]، وقال عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] فالملائكة تحتج عليهم بالشرع، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، فالكافرون يحتجون بالقدر وهو قولهم: إنَّ ربنا قدَّر علينا العذاب فوجب ذلك علينا، فيقال لهم: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] أي: يذكرونهم بأوصافهم وأعمالهم، وتكبرهم، وهم مازالوا يحتجون بالقدر ويقولون: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) إذاً: فأنت تدخل النار وهو مكتوب عليك ذلك، لكنك ستدخلها وأنت مذموم؛ لأنه ليس من الحجة أن يظل الإنسان على المعصية ويقول: إنه القدر، وهم في النار يحتجون بالقدر مع ذلك، كما قال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، أي: أن الشقوة التي كتبتها علينا غلبت علينا، {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:106 - 110]، فالله سبحانه وتعالى أحضر لهم عملهم، فقد لامهم وذمهم على الأعمال السيئة مع أنهم يحتجون بالقدر ويقولون: ((غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا)) ولا ينفع ذلك، ولن تقبل هذه الحجة، إذاً: فعندما يؤمن الإنسان بأن عمله مكتوب فإنه ينظر نظرتين: نظرة في العمل الصالح فينظر إلى فضل الله عليه بذلك، وأن الله هو الذي من عليه، وأنه كان عدماً، وإرادته كانت عدماً، وعلمه كان عدماً، فلا يغتر بعلمه أو عمله، والنظرة الثانية: في المعاصي، فيبادر إلى التوبة منها حتى يقبل احتجاجه بالقدر السابق المكتوب عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فلو احتج به مائة مرة على الذنب بعد أن يموت فلن يقبل منه هذا العذر؛ لأن الله إنما يقبل الاحتجاج بالقدر ممن أخلى مسئوليته عن الذنب، ولن تخلي مسئوليتك عن الذنب الذي قد مضى إلا بعد أن تندم قبل الغرغرة، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن ينزل العذاب بالناس.