التوبة والاستغفار من صفات أهل الجنة

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني ذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي) قوله: علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) أي: عاقب، فهو يعلم قدرة الله على العفو وقدرته على العقاب، فرجا عفو الله ومغفرته وخاف عقابه فاستغفر لذلك.

قال: (ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر، فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) أي: طالما ظل على تلك الحال، ووافى الله عز وجل تائباً، أخرجاه في الصحيحين.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم، قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، تحمل على الغمام -على السحاب- وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الترمذي.

والحديث له شواهده الكثيرة.

ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء قال مسعر: فيصلي، وقال سفيان: ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له).

وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن وابن حبان في صحيحه، والبزار، والدارقطني، وقال الترمذي: هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

ومما يشهد بصحة هذا الحديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).

فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنوب ينفع العاصين.

وقد قال عبد الرزاق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] الآية: بكى.

ورواه الحافظ أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون).

قال ابن كثير: عثمان بن مطر وشيخه: ضعيفان، والحديث ضعيف ولا يصح مرفوعاً.

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال إبليس: يا رب! وعزتك لا أزال أغوي عبادك، مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.

وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: (جاء رجل فقال: يا رسول الله! أذنبت ذنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أذنبت فاستغفر ربك، فقال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب، قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة: استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور) أي: الذي ترجع عليه الحسرة.

هذا حديث غريب من هذا الوجه ضعيف، لكن المعنى ثابت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ذكرناه قبل وفيه: (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء).

وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)) أي: لا يغفرها أحد سواه، كما روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) أيضاً لا يصح، مرسل من مراسيل الحسن.

وقوله: ((وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، أو يصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، والتكرار غير الإصرار، فالإصرار معناه: أن يعزم أن يعود إلى الذنب فيكون قلبه عازماً على العودة، والتكرار: يمكن أن يكون مع إصرار، ويمكن أن يكون بغير إصرار؛ لأنه سيفعل الذنب ثم يتوب، ثم يرجع إليه مرة ثانية، فهو قد تكرر منه الذنب ولم يصر، وإذا أصر ولم يتكرر منه الذنب فهو أشد ممن تكرر منه الذنب.

قال: ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي نصيرة عن مولى لـ أبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة).

رواه أبو داود والترمذي، والبزار، وقال علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، ضعفه الترمذي لأجل مولى أبي بكر، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر؛ ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق فهو حديث حسن، والله أعلم.

وقوله: ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير: وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، ((أَلَمْ يَعْلَمُوا)) فهم يعلمون من صفات الله أنه يغفر الذنوب، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110].

ونظائر هذا كثيرة جداً.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) صححه الألباني، وتفرد به أحمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015