على العبد أن يخاف الوعيد والعقاب، ولا يكون كمن من يقول: أنا لا أخاف النار، قال عز وجل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وكذلك يجب أن يكون العبد راجياً فضل الله ورحمته وثوابه وجنته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فنسب الرغبة إلى الله، والحسب في التوكل على الله، والإيتاء نسبه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال عن آل زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
فالأنبياء وصفوا بذلك، والمؤمنون وصفوا بذلك، ومدحوا على ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فمن زعم أنه يعبد الله حباً فقط، بلا رغبة ولا رهبة فهو منافق زنديق كاذب في دعواه، فلو أحب الله لأطاعه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، فإنه عز وجل يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] فلو أحب ربه لرهبه، وقالت رسله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، وقال سيدنا شعيب: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، فكيف تصدق دعوى الحب لله عز وجل مع مخالفة أمره؟ وكيف تصح العبودية بغير خوف ورجاء؟ وكثير من الناس اغتروا بالكلام المنسوب إلى رابعة العدوية -والله أعلم بحقيقة النسبة إليها- وهو قولها: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها! وظنوه دالاً على علو شأن المحبة.
واغتروا بالتفسير المنقول عن الشيخ الشعراوي في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] قال: والجنة تعتبر أحداً! وهذا معناه: أن الذي يطلب الجنة مشرك والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يقول لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]، فهل هن مشركات؟! وهل الله عز وجل يرغب في الشرك؟! نعوذ بالله! وهل عندما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) [الأحزاب:21] رغب في الشرك؟! فعندكم أن رجاء الله ورجاء اليوم الآخر شرك.
نعوذ بالله! وهذا الكلام ضلال مبين، وهو كلام حقيقته الكفر، يترفع عنه حال الأنبياء والأولياء، وإنما أصله سوء اعتقاد في الله ورسله كما هو حال الصوفية والفلاسفة، فإن عندهم أنه من الممكن أن يقول الله للناس كلاماً غلطاً من أجل أنه لا ينفع معهم إلا هذا، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
من الفلاسفة من يقول: إن الرسل أصلاً كانوا فاهمين، لكن الناس لا ينفع معهم إلا هكذا! وبعضهم يقول: إن الرسل يخدعون الناس، وأن الرسل لم يكونوا يفهمون ما هو الموضوع، والعياذ بالله! فهؤلاء المتدينون من الفلاسفة يقولون: إن الرسل كانوا يخدعون الناس، وهذا معناه أنهم كذابون.
والعياذ بالله! ويقولون: بأنهم لا يفهمون أصلاً، وأن طرق الحكمة غير طرق الرسل، وهؤلاء أكفر الفلاسفة والعياذ بالله! فهذا كلام فضيع جداً، والذي يقرأ كتاب مفصل الاعتقاد لشيخ الإسلام ابن تيمية يجد فعلاً أن كلام الفلاسفة مبني على ذلك، وهم في أحسن أحوالهم يقولون: الرسل أذكياء جداً، لكن العوام من الناس لا ينفع معهم غير هذا، والذي يتلمح مثلاً عنوان كتاب الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام) يجده لم يلغ علم الكلام بالكلية، وإنما يلجم العوام الذين لا يفهمون.
وله كتاب آخر اسمه: (المضنون به على غير أهله)، قال ابن العربي: شيخنا أبو حامد دخل الفلسفة فأراد أن يخرج منها فلم يستطع يعني: أنه ما زالت بقايا الفلسفة مؤثرة فيه، ففي كتابه (المضنون به على غير أهله) يقول: إن هناك أسراراً يضن بها على العوام! ولذلك تجدهم كلهم متفقين على أن الخوف والرجاء والرغبة والتوكل والإخلاص كل هذه من عبادة العوام، يعني: أن الخواص مترفعون عن ذلك، وهذا الكلام ذكره في مدارج السالكين، وفي كل مكان فيه صوفية تجد هذا الكلام موجوداً.
ولذلك كلام الفلاسفة هذا خطير للغاية، وفساد فعلاً في الاعتقاد، وهو يرمي إلى تجريد الرسل أصلاً، فإن الفلسفة لما دخلت أثرت على الناس في عقائدهم، وبمرور الزمن أدت إلى أن يكون كلام الكفار هو الذي يعتقده قطاع عريض من أتباع الرسل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأكثرية -والحمد لله- تأبى ذلك، إلا أن هناك أناساً منتسبين إليها يفعلون ذلك، فإن عقيدة النصارى منبعها من الفلاسفة الكفار، وعامة النصارى يعتقدون هذه العقيدة الكفرية والعياذ بالله! ولو أن أحداً اعتقد أن الجنة هي أكل وشرب ونكاح فإنه يصبح جاهلاً بالدين مبتدعاً؛ لأنه ينكر رؤية الله، وينكر القرب من الله؛ ولذلك فإن الجهمية من شرار الخلق؛ لأنهم ينكرون أعظم نعيم لأهل الجنة وهو القرب، فهم يقولون: إن الله لا يقرب، ولا يقرب منه؛ لأنه يلزم من ذلك الجسمية.
قالوا: ولا يرى في الآخرة؛ لأنه يلزم من ذلك أنه محدود؛ ولذلك أنكروا هذا وقالوا: إن الجنة أكل وشرب ونكاح فقط، وهؤلاء من أهل البدع والضلال، فإنهم لما تركوا ذكر الله، وتركوا القرآن، وتركوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وقعوا في الضلال الذي ما أنزل الله به من سلطان.
فحقيقة هذا الكلام هو الضلال والزندقة؛ إذ كيف يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل أفضل أولياء الله الصالحين -وهم الصحابة رضي الله عنهم- الجنة، ويستعيذون بالله من النار، ثم يتبرأ مسلم من ذلك، أو يزدري هذه النماذج في الاعتقاد، تارة بأنها عبادة العبيد أو التجار، مثل الكلمة المشهورة الموجودة: الخوف عبادة العبيد، والرجاء عبادة التجار، وأما الحب فهو عبادة الصديقين؟ فهل كان الصحابة وآل زكريا من العبيد والتجار؟ هل أصبح هؤلاء أحسن منهم؟! كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، وهو محي الدين الصوفي، وأما أبو بكر بن العربي فهو المالكي.
وهذا الكلام ليس إلا إعراضاً عن القرآن والسنة وإجماع علماء المسلمين، بل قد صرح أئمة العلماء بكفر من قال: أنا لا أخاف القيامة، قال النووي: ولو قال: لا أخاف القيامة كفر.
فانظر إلى هذه الهاوية التي سقط فيها أولئك القوم، وفتنة الناس بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.