النظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، كيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل والأحسن وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق على الإطلاق وأعلاهم عند الله منزلةً يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) ومع كل هذا الأمر يقول في خاتمة دعائه: (وما أنت أعلم به مني)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر النقص والذنب والخطيئة فيما قدم وفيما أخر، وبعد كل هذا يقول: (أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)، إذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو عليه الصلاة والسلام المعصوم من الذنب، وهو الذي لا يتعمَّد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام إنما هو خطأ أو نسيان أو ترك لبعض الأَولى أو فتور عن ذكر مستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن دونه؟! وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه؛ بأن يرى نفسه هالكاً إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، لسان حاله يقول في خطابه لربه: وجئنا ببضاعة مزجاة، فما الذي جعل إخوة يوسف يطلبون منه هذا الطلب ويطمعون فيه مقابل البضاعة المزجاةٍ، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، وبسبب طمعهم في كرمه قالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، فهم يرجون منه الإكرام وأن يوفي لهم الكيل مع أن بضاعتهم مزجاة، وهكذا لسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل يرى نفسه المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكن طمعه في فضل الله ورحمته يجعله يتقرب إلى الله بهذا العمل اليسير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فانظروا فيم كان الرجاء؟ وعلام كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل! مع كونه عليه الصلاة والسلام في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد حقق ما ينبغي أن يكون عليه العبد من الذل والاستكانة والانكسار بين يدي الله؛ وما ذلك إلا لكمال هذه العبودية عنده، فهو نظر إلى النقص والتقصير ولم ينظر إلى الكمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.