قال عز وجل عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:42 - 43].
شرف العلم عظيم، به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع العبد درجات بالعلم، كما قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].
فالله عز وجل يرفع الدرجات بالعلم.
وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي))، هذا علاج لمرض ينتشر في كثير من الناس، وهو أنه لا يقبل الحق من الصغير، ولا يقبل الحق ممن دونه في السن أو دونه في المنزلة عند الناس، فإبراهيم يذكر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأته، فليست العبرة بطول العمر، ولا بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس، وهذا أمر يستفيد المؤمن منه في دعوته إلى الله عز وجل، إذ يبين للناس أن العبرة باتباع من جاءه العلم من عند الله، والعلم من عند الله هو العلم بالوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده من العلم شيء فينبغي اتباعه، سواء أكان كبيراً في السن أم صغيراً.
كما وكان عمر رضي الله عنه يدني القراء، وكانوا في عهده رضي الله تعالى عنه أصحاب مجلسه ومشورته، كهولاً كانوا أو شباناً؛ فكان القراء الحافظون لكتاب الله هم أصحاب مجلس عمر، وكان منهم الحر بن قيس.
ولم يكن رضي الله تعالى عنه يقدم أي أحد لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأكبرهم سناً).
فالإنسان إنما تكون له المنزلة بالسن إذا استوى في غيره من الفضائل مع غيره، وأما أن يحترم الكبير فنعم، ولكن لا يلزم من هذا الاحترام أن يكون متبعاً على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
ولكن هذا الاحترام وهذا التوقير ليس معناه قبول كل ما يقوله الكبير.
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
أهدك بمعنى: أبين لك، وإلا فهداية القلب لا يملكها إلا الله، وهو سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل هدايته، وحيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، فإنه يضع الهدى في مواضعه، كما قال عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] فهو سبحانه يعلم من يستحق الهدى، ومن يناسبه، ومن يقبل الهدى فينبت أنواع الطاعات ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض، والمحل قابل لهذا الخير.
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
أي: مستقيماً معتدلاً قصداً، وهو الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى.