أثر دعوة إبراهيم لذريته وأتباعهم

من دعاء إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36] أي: الذين دعوا إلى عبادتها أضلوا كثيراً من الناس، وليست الأصنام نفسها تضل كثيراً من الناس، فهو يعتبر بحال الأكثر، وكان يخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، ولذا قال من قال من السلف: من يأمن البلاء بعد إبراهيم، أي: من يأمن أن يقع فيما حذر الله عز وجل منه من الشرك بعد أن دعا إبراهيم بالنجاة له ولبنيه منه، وقد استجاب الله عز وجل دعوته، فلم يكن أحد من بنيه وعصبته مشركاً، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد عشرة قرون متتابعة، فانظر كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالاً متتابعة.

وكذلك أثرت هذه الدعوة في حياة البشر وفي هذه البقعة إلى يومنا هذا؛ فدعوة التوحيد هذه جددها النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها في الأرض كلها بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، فبعث عليه الصلاة والسلام إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وقام بذلك من بعدهم، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان، فانظر كيف يكون أثر تلك الدعوة، فيقول إبراهيم: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))، فمن أمن الشرك على نفسه فهو جاهل، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! قال إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا هو النسب الحقيقي: اتباع إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه، فهو أبوهم بالروح والقلب؛ لأن ولادة قلوبهم كانت بدعوته، والنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين، قال عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وذلك لأن ولادة القلوب كانت على يديه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة دعوة أبيه إبراهيم؛ إذ دعا ربه أن يبعث في ذريته رسولاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وتوسل إلى الله بعزته وحكمته، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].

فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نوراً خرج منها فأضاء قصور الشام، فكيف يكون الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة؟

صلى الله عليه وسلم يكون عظيماً بحسب قرب الداعي من ربه عز وجل، وبحسب استعاذته بحول الله وقوته، فحينئذ يؤثر الدعاء تأثيراً عجيباً يمتد لآلاف السنين بقدرة الله سبحانه وتعالى.

يقول إبراهيم عليه السلام: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، فإذا كان إبراهيم يدعو لمن عصاه بأن يغفر الله له، ولا يغفر الله الشرك إلا بأن يتوب العبد منه، فإن من مات على الشرك وقد بلغته الحجة فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقوله: ((وَمَنْ عَصَانِي)) تشمل من عصى الله عز وجل بالمعاصي التي هي دون الشرك، التي يكون الاستغفار مؤثراً فيها بإذن الله، وأما من أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه، وهذا لمن لم يمت على الشرك، أما من مات عليه فإن إبراهيم يتبرأ منه، كما تبرأ من أبيه آزر، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].

فإبراهيم الأواه الحليم المنيب الذي جعل يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط المجرمين والسفلة المنحطين، الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، واستهزءوا بنبيهم وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم يدعو لهم لشفقته ورحمته بالخلق والله يحب منه ذلك، حتى إنه دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخر عنه العذاب، وأمر الله نافذ فيه، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه -أي: كثير الدعاء- وإبراهيم كان كذلك.

والله يحب هذه الصفات التي ترتب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه، فكيف يمكن أن يظن به ألا يكون شفيقاً رحمياً بولده وأم ولده؟! وذلك مما لا يتصور، فكيف تسأل هاجر وتقول: إلى من تتركنا؟ وكيف يمكنها أن تتصور أنه يتركهم إلى غير أحد؟ فتكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بأن السكوت أبلغ من الكلام فلا يلتفت إليها ولا يجيب عليها، وفي الثالثة تكرر السؤال وهو لا يجيب ولا يلتفت، فتنتبه بعد ذلك فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فهنا يجيب إبراهيم فيقول: نعم، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية، وهذا هو الذي ينبغي أن يؤكد في النفوس، أي: أن نمتثل أمر الله، اقتداءً بإبراهيم عليه السلام حين لبى أمر ربه.

والمؤمنون حين يلبون ويسمعون تلبية الحجاج: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، إنما يتبعون أنبياء الله عز وجل، ويجيبون الدعوة التي بلغها إبراهيم بأمر الله، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] فنادى إبراهيم قائلاً: إن لله بيتاً فحجوه، وناداهم بغير مكبر صوت أو إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كان لهذه الكلمة أثراً عجيباً في البشر عبر العصور، والأزمنة ما لا تؤثره كل الوسائل الأخرى، والناس اليوم عندهم من وسائل توصيل الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة ما تعلمون، أو ما يسمى: بوسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك! فكم من ملايين الكلمات تذهب هدراً، ولم تذهب كلمة إبراهيم هدراً؛ وللوعد الذي جعله الله سبحانه وتعالى وعد صدق، حيث تكفل الله بإيصال هذه الدعوة؛ فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فكل من لبى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقاع ملبياً مجيباً دعوة إبراهيم عليه السلام، فنحن نمتثل أمر الله عز وجل مهما كان في الظاهر شاقاً وصعباً، فهو اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة.

تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، ومع ذلك يترك إبراهيم ولده وأم ولده، ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، وهي جراب تمر وقربة ماء، ثم يتركهم ويذهب إلى بيت المقدس في الشام، وهي مسافة في ذلك التاريخ تقضى في أكثر من شهر، ومع هذا يرحل إبراهيم ويتركهم لله عز وجل، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا هو أمر الله: إذاً: لا يضيعنا، وهذه ثقة عظيمة بالله وتوكل عليه.

ولك أن تقارن بين تلك اللحظات وبين اللحظات اليوم التي لا يوجد موضع قدم في تلك البقعة المباركة إلا وسكنت، إلا ما شاء الله عز وجل، فيرحل إبراهيم حتى إذا كان خلف الأكمة حيث لا يريانه يتوجه بهذا الدعاء: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)).

فإنما كانت هذه الرحلة والهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، فهو يتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة، وذلك في قوله: ((بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015