إذ كانت هذه دعوة من إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
وفي الآية الأخرى قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة:126] فكانت الدعوة قبل تكون البلدة وبعد تكونها، وكان هذا الدعاء هو الذي غير وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، والذي نشر الله عز وجل به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، إذ من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعاً في أرجاء الأرض كلها، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء، فتنشر توحيد الله عز وجل، وتعلن الكلمة الخالدة: لا إله إلا الله شعاراً للحياة وشعاراً للأمة الإسلامية، فلا توجد أمة من الأمم سواء ممن تنتسب إلى الأنبياء أو ممن لا تنتسب إليهم ترفع هذا الشعار، أو تطبقه في الحياة، أو تسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض، وإنما تجد الأمم حتى ممن تنتسب إلى الأنبياء ترفع شعارات خاصة بها على خلاف ما أوصى به الأنبياء، وهذه الوصايا مسجلة عندهم، وأول هذه الوصايا جميعاً: أن يعبد الله وحده لا شريك له.
فهذا موجود في وصايا موسى العشر كما هو في التوراة، وهي وصية المسيح كما في الإنجيل، وإنما يرفع هذه الكلمة بفضل الله عز وجل ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون من كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منىً ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضات ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
ولقد قدر الله عز وجل أن يأتي إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام مع أمه ويتركهما في ذلك المكان، فتقول له هاجر: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟ وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم، الشفيق بالخلق- أن يكون قاسياً على ولده فلذة كبده! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله عز وجل على يديه؟! وكيف يمكن أن يظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟!