الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، ومن ضمن ما يكون في عموم التزكية التي ذكرها الله عز وجل الزكاة الواجبة، ومن ضمنها صدقة الفطر، فلقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، أي: قبل صلاة العيد، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
وصدقة الفطر فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً أقط، وهذا يدل على أن القيمة ليست معتبرة؛ لأنه لو كانت معتبرة لقيمت هذه الأشياء ليس بالصاع وإنما بما يساويه قدر معين من كل منها، فإن صاع الزبيب يختلف عن صاع الشعير، وقد قدر النبي صلى الله عليه وسلم قدراً واحداً منهما وهو الصاع رغم اختلاف قيمة هذا عن هذا، فدل ذلك على أن المعتبر هو القدر المثيل لا القيمة المادية، وذلك أنها فرضت طعمة للمساكين.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن زكاة الفطر لا بد أن يخرجها صاحبها طعاماً، أي: لا بد أن يخرج صاعاً من طعام كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، وقد كانت بأيديهم الدراهم والدنانير سيما بعد أن وسع الله عز وجل عليهم، ومع ذلك فما زالوا يخرجونها طعاماً، وظلوا يخرجونها كما كانوا يخرجونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، كما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
ولقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، فيجب على كل واحد أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإخراج عن الحر والعبد دليل على ذلك دلالة واضحة؛ فإن العبد لا يملك مالاً في حال من الأحوال ومع ذلك وجبت زكاة فطره على سيده، فدل ذلك على أن الصغير كذلك حتى ولو لم يكن له مال، وكذلك الأنثى سواء كانت زوجة أو بنتاً، فكل إنسان عليه أن يخرج صدقة الفطر، وهي صدقة وزكاة واجبة، وليست بمعنى صدقة التطوع، فيخرج المسلم صدقة الفطر عمن تلزمه نفقته من أهله وأولاده وأقاربه.
وهذه الزكاة شرعت طعمة للمساكين في العيد، ولذا جاء في الصحيح: أنها لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وكانوا يجمعونها قبل العيد كما في حديث أبي هريرة في قصة الشيطان الذي جاء يسرق من صدقة الفطر التي جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها، حتى أمسكه أبو هريرة ولم يتركه إلا بعد أن علمه آية إذا قرأها عند نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] آية الكرسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب).
والحديث في أوله أن أبا هريرة جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر، فدل ذلك على أنها تجمع قبل ذلك، فتصل إلى المساكين قبل العيد بيوم أو يومين، وعلى حديث ابن عمر إلى صلاة العيد، ومن أخرها عن صلاة العيد فقد أساء، ويجب عليه أن يخرجها إلى غروب الشمس من يوم العيد، وإلا فقد بخل بالزكاة الواجبة، وهو آثم إثماً عظيماً، فمن الكبائر تأخير زكاة الفطر عن غروب الشمس من يوم العيد، ويلزمه قضاؤها بعد ذلك أيضاً؛ لأنها حق معلوم للسائل والمحروم، ولو فرط عدة سنين في زكاة الفطر فإنه يلزمه قضاؤها الآن فوراً، فإن هذا الحق للمساكين لا يجوز أن يؤخر عنهم.
فإن زكاة الفطر لرمضان الذي هو فيه تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، فمن بقي حياً أو وجد في هذا الوقت فقد وجبت عليه زكاة الفطر، وأما من مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أو ولد بعد غروبها فلا تجب زكاة الفطر عليه، وإن استحب بعض السلف إخراجها عن الجنين لكنها ليست واجبة، وإنما هي صدقة تطوع لمن أحب.
وهذه الزكاة مصرفها مصرف الزكاة، وإن كان الأولى أن تكون للفقراء والمساكين، حتى يغنوا عن السؤال في هذا اليوم.
والتوكيل في إخراجها جائز، فيجوز أن توكل غيرك ممن هو أعلم بالمساكين، ولكن يجب التنبه إلى أنه يجب إخراجها بتحديد عدد الصاعات؛ لأنها واجبة على كل واحد من المسلمين، فلا يجوز أن تدفع مثلاً قدراً من المال إلى وكيل دون أن تحدد له العدد الذي يخرج عنه، فإنه ربما أخرج من صنف لا يكفي المال الذي دفعته لصاع عن كل واحد ممن تخرج الزكاة عنه، والأفضل -بل عند كثير من العلماء هو الواجب- أن يكون من غالب قوت البلد، وغالب قوت أهل بلدنا هو الأرز، فالأولى أن يكون من غالب قوت البلد؛ لأنه أنفع للناس، وإن كان الصحيح أنه يجزئ غير ذلك كالتمر مثلاً، وإن كان عندنا بمنزلة الفاكهة لا بمنزلة القوت الذي لا يستغني الناس عنه، فهذه بعض الأحكام في زكاة الفطر التي يجب أن نؤديها كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زكاة للإنسان وطهرة له.
فالصدقة المقصود منها: أن يتطهر القلب من الشح والبخل، قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وهي تشعر المسلم بحاجة إخوانه من المسلمين، فهذه القضية العظيمة التي يجب أن تظل حية في نفوسنا أي: قضية الجسد الواحد حتى نستشعر انتماءنا لهذا الجسد الواحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتماسكهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
عباد الله! ما أكثر شكوى المسلمين! ما أكثر آلامهم! فهل نرحمهم، وندعو لهم، ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعوا على أعدائهم أن يكف الله سبحانه أيديهم عنهم؟! هل نستشعر آلام المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان؟! في مشارق الأرض ومغاربها آلام كثيرة! عباد الله! سيمر علينا العيد فتذكروا أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يكون العيد عليهم ألماً وحزناً لما فقدوه ولما حرموا منه ظلماً وعدواناً، من قريب قد مات وعائل قد فقد وأب قد حبس وأسير قد أسر يمر عليهم العيد في آلام تقتضي منك شفقة ورحمة، ورأفة ورقة، ودعاءً وتضرعاً لله عز وجل أن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسر المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يرحم ضعفاء المسلمين، وأن ينجيهم من عدوهم، وأن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين! اللهم من ولي أمراً من أمور المسلمين فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمراً من أمور المسلمين فرفق بهم فارفق به! اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار! اللهم ول أمور المسلمين خيارهم، ولا تول أمورهم شرارهم، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر سبلنا، وانصرنا على من بغى علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وقربنا ولا تبعدنا! اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا! اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.