إن هذه الجلسة نلحظها في اللقاء الخاص بين يوسف وأبيه، كما حكى الله عنهما ذلك في قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5] فنلحظ أن هذه الجلسة لم يكن فيها غيرهما من إخوة يوسف، مع أن الكل يربيهم أبوهم، لكنه خص يوسف بهذه الجلسة؛ لأن هذه الخصوصية ضرورية بلا شك لتهيئة معينة، ولكي يخرج يوسف ما في نفسه كذلك، ولو تأملت أثر هذه الوصية، وهذه الجلسة في مستقبل حياة من نشأ على هذه التربية، لوجدتها في قصة يوسف عليه السلام من أوضح ما يكون، فكل ما لقنه أبوه وذكره به في تلك المجالسة وقع كما أخبره به، مع أن الجلسة فيما يبدو لمن يقرؤها لا تأخذ دقائق معدودة، ومع ذلك أثرت فيه أعظم التأثير، فعندما قال له: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) ولم يقل له: إن إخوتك هم الأعداء، وإنما أخبره أن الشيطان هو الذي سوف يجعلهم يكيدون له، وليسوا هم بأعداء لك أصلاً.
وبقيت هذه المسألة في قلب يوسف عليه السلام، فعندما حقق الله عز وجل رؤياه، وجعلها ربه حقاً، قال عما فعله إخوته به بأسلوب رفيع: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا، فهو يعلم أن الشيطان هو العدو، وقد علمه أبوه ذلك، فأخبرونا من مِن أبنائنا يعرف الشيطان، ويعرف عداوته البينة للإنسان، وليس مجرد أنه يخاف من العفريت إذا هددته أمه أو أبوه بأنه سوف يخرج له ليظل مرعوباً من العفاريت ومن الجن؟ نسأل الله العفو والعافية.
ولولا وجود هذا الأثر السيئ في النفوس من الجن، والخوف منها؛ لما وجدنا هذا الكم الهائل من الحالات التي يظن الناس أنها ممسوسة؛ أو مصروعة أو غير ذلك؛ فإن هذا تعظيم لشأن الجن أضعافاً مضاعفة عما يستحقه ويناسبه، وعما هو الواقع في الحقيقة.
وفي هذه الجلسة علم يعقوب يوسف أن الله هو الذي يمن، وأنه هو الذي يجتبي، وأنه هو الذي يعلم، وأنه هو الذي يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فأثرت هذه الكلمات المضيئة من يعقوب عليه السلام حين قال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، فلم يقل له: سوف تكون أنت فوق إخوتك، أو سوف تكون أنت الأعلى، وسوف تكون عالماً بتأويل الرؤى، ولكن حرص تمام الحرص أن يقول له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:6].
وقد أحسن يوسف التلقي، فقال عندما ذكر أباه بأمر الرؤيا بعد أن سجدوا له أبواه وإخوته، {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، ولم يقل: قد تحققت، وإنما قال: ((قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)) ونسب النعمة إلى الله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]، والمعتاد منا أننا نحن الذين ندعي القدرة، فيقول أحدنا: خرجت من السجن، ولا يحاول أحدنا أن يستحضر أن الله أخرجه من السجن، أو من الأزمة الفلانية، أو من المرض الفلاني، فربما يقول البعض شُفيت، فينسبها هكذا للمجهول أو نحو ذلك، ولكن يوسف حرص أن ينسب الفضل لله والنعمة لله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}، ولم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال: ((وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ))، ثم علمه أبوه الأسماء والصفات في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] وهذان الاسمان ختم بهما يوسف عليه السلام خطابه لأبيه بعد هذه السنين الطويلة حين قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]، فمعرفة أسماء الله وصفاته يتلقاها الابن عن أبيه اليوم على طريقة المتكلمين السخيفة المدمرة، والتي لا يعي الناس منها شيئاً، وإنما قد أثمرت آثاراً عجيبة لا يعيها الناس ولا يدركونها، وبالتالي يتركون هذا العلم من أصله.
ولقد سمعت اليوم عجباً: بينما أنا في صباح هذا اليوم أمشي، إذ رأيت أباً مع ابنه، والابن في حدود الثالثة أو الثالثة والنصف، ويتكلم بصعوبة لصغره، وأبوه رجل كبير قد شاب بعض شعره، فبمجرد نزولي من السيارة سمعت الولد يقول لأبيه: يا بابا! ربنا فوق، قال له: ربنا في كل مكان يا ابني! فقلت له: والله إن ابنك أعلم منك، سبحان الله! الابن على الفطرة السليمة، فلما قلت له ذلك، وبينت له أنه ليس في كل مكان، وأنه ليس بداخلنا ولا داخل هذه الأماكن كلها، وإنما ربنا فوق العرش، ضحك الرجل وقال لي: شكراً جزاك الله خيراً، قلت: ربنا يبارك لك فيه.
فانظروا الولد على الفطرة السليمة، والأب يعلم ولده أن الله في كل مكان، وكان المفروض أن الأب يعلم ابنه أسماء الله عز وجل وصفاته؛ لأن هذا أصل التوحيد.
فسيدنا يوسف عليه السلام ذكر كل ما تعلمه من أبيه، فتلك الكلمات كلها مما ذكره له أبوه، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) ثم قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ لأن أباه علمه أن أباه وجده وجده الأعلى كلهم غارقون في نعم الله سبحانه وتعالى، فهو يطلب النعمة من الله والثبات عليها.