الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فقد قال سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:58 - 59].
رجع القوم من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسرة إلا ذلك الكبير، وفي فطرتهم أن الأصنام لا تتحرك ولا تصنع شيئاً، وأنه لابد من فاعل فعل بالأصنام ذلك، فقالوا مقرين في حقيقة الأمر بعجز الأصنام، وأنها جمادات لا تصلح لشيء: ((قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا))، والإنسان قد فطر على أن كل فعل لا بد له من فاعل، وأن الجماد لا يصلح أن يكون فاعلاً، وأن هذه الأرض وما فيها وما عليها لا تصلح أن تكون فاعلاً، والعجب أن الناس يقبلون في زماننا هذا -بعد أن مكنهم الله عز وجل ما لم يمكن لمن قبلهم من أنواع العلوم والاكتشافات والقدرة- أن هذا الكون الذي أحكم وأتقن غاية الإتقان بغير فاعل، وينسبون إلى الطبيعة أنها هي التي تفعل، فإذا وجدوا الرياح تعصف بهم قالوا: غضب الطبيعة، وإذا وجدوا الأرض تتزلزل من تحتهم قالوا: اضطراب القشرة الأرضية، ألا يتعظ هؤلاء ويتذكرون أن الله عز وجل قد فطر الخلق جميعاً على أن كل فعل لا بد له من فاعل، حتى المشركون يقرون بذلك، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37].
فقد كانت الآيات في الماضي تأتي في كل قرن، وربما في كل سنة كالطوفان والغرق والريح المدمرة والزلازل، وجعل الله لهم أنبياء كثر، وفي آخر الزمان انقطعت النبوة، وكثرت الآيات، فلا يكاد يمر أسبوعاً إلا وترى آية من آيات الله تثبت عجز البشر جميعاً.
إن الزلازل والرياح والأعاصير والأوبئة المنتشرة في المشارق والمغارب، وما يصيب البشر بأنواع العجز والضعف، كل ذلك تذكير من الله سبحانه وتعالى لهم، أفلا يعي بشر هذا الزمان ما وعاه المشركون من قبل من أن كل فعل له فاعل، وأن الأصنام -فضلاً عن الأرض التي يتحركون عليها، ولم تشكل في صورة تمثال ولا غيره- لا تصنع شيئاً؟! قال الله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، والعجب أنهم يعرفون أن الأصنام لا تصنع شيئاً، ومع ذلك يسمونها آلهة، ويجعلون من فعل بها ذلك ظالماً، وكان البعض منهم قد سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول: ((تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ))، فسرعان ما أرشدهم إلى ما يبحثون عنه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، فهذه الأمور غالباً لا تخفى، وإبراهيم ما كان يقصد الاختفاء، وإنما صنع ذلك وهو يريد أن يعلموه، فلا يتصور في مثل هذه الأمور أن تختفي، وإنما الغرض منها إقامة الحجة ((قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى))، أي: شاباً، وهذا دليل على أن الشباب عليهم دور عظيم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن مقام إبراهيم عليه السلام -وهو فتى شاب يدعو إلى الله، ويكسر الأصنام، ويقيم الحجة، ويضحي بنفسه في سبيل الله- هو الأسوة الحسنة لهم في هذه الحياة، فكذلك كان الشباب هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كانت الذرية من أتباع موسى صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، أي: الشباب، وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دعاة إلى الله عز وجل؛ طلاب علم عاملين بالحق، نافعين لأمتهم، يقومون بالحق ويجهرون به، ويدعون إلى الله، ويضحون في سبيل الله.
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61]، أي: على مشهد من الناس ((لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)) فعقدوا له محاكمة هي في الحقيقة محاكمة جائرة ظالمة، لكنهم يزعمون التثبت {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، وهذا تعريض منه عليه السلام؛ فإن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وإلا فهم لا ينطقون.
قال عز وجل: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وحماية ((ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ)) أطرقوا وراجعوا عقولهم، ففهموا ما أراد إبراهيم عليه السلام، وعلموا أنه أراد أن يرشدهم إلى عجز ذلك الصنم عن النطق فضلاً عن غيره، ومع ذلك انتكسوا ولم يقبلوا الحق الذي ظهر لهم من أنها لا تصلح أن تعبد، ولا تصلح أن تكون آلهة.
قال عز وجل: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، أنت تفهم ونحن نفهم أنها أصنام، ولا تستطيع صنع شيء {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66 - 67]، غضب لله عز وجل، وظهرت غضبته في هذه الكلمات، وذلك في التأفف منهم، وبيان باطلهم، والغضب مما يعبدون من دون الله، والبغض والكراهية لهذه العبادة الباطلة، ثم قال لهم: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)).
وبعدها صدر الحكم الجائر رغم عدم ثبوت التهمة، ولكن ثبت أن إبراهيم يكره عبادة الأصنام ولا يقرها: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]، فأوقدوا ناراً عظيمة نذروا لها النذور، وجمعوا لها الحطب حتى أنهم لم يستطيعوا الاقتراب منها، وجعلوه في المنجنيق ليرموه من بعيد {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، أي: في النار، وكان الأمر من الله عز وجل أسبق وأعلى من أمرهم، وأراد الله عز وجل أن يضرب بإبراهيم الأسوة الحسنة في التوكل لكل الدعاة إلى الله على ما يصيبهم في سبيل الله، فحين ألقي في النار قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ولم يتوكل على غير الله، ولم يفوض أمره إلى غير الله سبحانه وتعالى، ولم يأته الفرج من أول الابتلاء، بل حبس إبراهيم مدة، وألقي مقيداً في المنجنيق، وضرب المنجنيق لينطلق إبراهيم في الهواء، فيقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي آخر لحظة يأتي الفرج {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
فإذا حبست فتذكر حبس إبراهيم، وإذا قيدت فتذكر قيد إبراهيم، وإذا هددت فتذكر ما هدد به القوم إبراهيم، وتذكر توكل إبراهيم وحسن تفويضه الأمر إلى الله عز وجل وتوكله على الله، وقل من قلبك مع لسانك: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعند ذلك يتحول الأمر بإذن الله وفضله ونعمته ورحمته وعزته وحكمته إلى الخير لعبده المؤمن {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فأحرقت وثاقه وما ضره شيء من ذلك، حتى قال له أبوه فيما يذكرون: نعم الرب ربك يا إبراهيم، ذلك أنه فعل به ذلك ونجاه من النار، وكانت الأيام التي قضاها في وسط الجحيم من أحسن الأيام كما يزعمون، وهكذا المؤمن يظن الناس أنه معذب وهو في الحقيقة منعم بفضل الله ونعمته ورحمته، فقد اقترب من الله، واقترب منه الله عز وجل، فأنعم عليه بأنواع النعم، رغم ما يراه الناس حوله من ألوان العذاب.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا متابعة إبراهيم ومرافقة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخليله إبراهيم، وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأس الظالمين والكافرين والمنافقين عن المسلمين، فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.