إن الله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا الأمثلة في المسابقين إلى طاعته، والمتنافسين في مرضاته فيما جعل من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من حبهم بعضهم لبعض مع تنافسهم على الطاعة، فهذا عمر يقول حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنفقة: اليوم أسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله صدقة لله عز وجل، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله، وعندما جاء أبو بكر بماله كله قال: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: لا أسابقك إلى شيء أبداً)، ومع ذلك يظل على الحب والود، ويظل الناصح الأمين المخلص، وربما اختلف معه، لكن يظل الوئام والحب صادقاً في قلوبهم بين بعضهم بعضاً؛ ولهذا ولما حاول البعض أن يوقع بينهما عندما أمضى أبو بكر أمراً وكتب لبعض الناس به صكاً أو نحو ذلك، فقابل عمر فقطع ذلك الصك أو تلك الورقة، فذهب إلى أبي بكر يقول: أنت الأمير أم هو؟! فقال: هو لو أراد.
فانظر إلى هذا الفقه العظيم! وكيف كان تنافسهم على الطاعة لا يثمر حقداً ولا ضغينة ولا بغضاء، هذا أبو بكر يوم السقيفة يقول للأنصار، وقد أرادوا أن يجعلوا أميراً منهم بالإضافة إلى أمير المهاجرين، وبين لهم أن هذا الأمر لا يصلح إلا لهؤلاء الملأ من قريش قال: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، وإذا بـ عمر يطلب من أبي بكر أن يبسط يده ليبايعوه، فيؤاثر ولا يؤثر إلا ما يعلم أنه الحق وأنه النصح للأمة، وأبو بكر كان صادقاً فيما نصح، وهو قد رضي لهم ذلك، وإن كان هو الأفضل رضي الله تعالى عنه، وعمر رضي الله عنه له فضل عظيم في تقديم أبي بكر لهذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهكذا كان السباق على الآخرة يؤدي إلى مزيد الحب ومزيد الود، وهكذا طبيعة حقيقة التنافس على مغفرة الله؛ لأن الإنسان المؤمن إنما يحب في الله، وهو إذا ظهرت طاعته في الأرض أحب ذلك حباً لله عز وجل، وحباً لظهور دينه، فكيف يمكن أن يكره ظهور الطاعة في الأرض لأجل أنها ظهرت على غير يديه، أو لأنها ظهرت من غيره، وأي عمل يعمله في الحياة إلا أنه يريد أن تظهر عبودية الله في الأرض، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى، فأما إذا كان يريد كبراً وعلواً فهذا الذي يشرق إذا ظهرت الطاعة على يد غيره، ولا يقبل ذلك ولا يستسيغ ذلك، فتجد الدنيا من وراء ستار الدين، نعوذ بالله من ذلك.