كان المهاجرون رضي الله عنهم، ممن قدم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الثمانية: الآباء والأبناء، والعشيرة والأهل والأزواج، والأموال المكتسبة، والتجارة التي يخشى كسادها، والمساكن المرضية، كل هذا ضحوا به في سبيل الله عز وجل، وكان فقرهم الذي حصل لهم إنما كان بعدما كانوا فيه من سعة من المال والرزق، وما كانوا فيه من المنزلة؛ فإن قريشاً كانت لها المنزلة الرفيعة عند العرب جميعاً، وكانوا رضوان الله عليهم بما صنعوا يمثلون قدوة في التحمل والصبر والثبات على الدين رغم المشاق، وكان من شأنهم ما ذكره أهل السير والحديث، من جوعهم؟ وزهدهم في الدنيا؟ وصلابة تحملهم للمشاق في سبيل الله؟ يحكي ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بجماعة من أصحابه يعودون سعد بن عبادة رضي الله عنه، وليس عليهم نعال ولا خفاف ولا عمائم ولا قلانس إلا الأزر رضي الله تعالى عنهم! خرجوا حفاة ليس معهم نعل ولا خف، ولا قلنسوة ولا عمامة، رضي الله تعالى عنهم، ليس معهم إلا الأزر.
وكذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أميراً على سرية فيها ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وماذا كان زادهم الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ زودهم بجراب من تمر، نصيب كل واحداً منهم في اليوم تمرة، نام واحداً منهم عن تمرته فما استطاع أن ينهض؛ لأنه كان عاجزاً عن النهوض؛ حتى شهد له أصحابه عند الأمير أبي عبيدة بأنه لم يأخذ تمرته، فلما شهدوا له بذلك قيل له: تعال خذ تمرتك، فانطلق لكي يأخذ التمرة رضي الله عنه، كأنما أفاق من الغشيان والإغماء الذي أصابه، كانوا يمصون التمرة والنواة ويجعلون عليه من الماء حتى نفد هذا الجراب من التمر، وجاعوا جوعاً شديداً، حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فأكلوه في البداية متأولين أنهم مضطرون لأجل الجهاد، حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن هذا رزق ساقه الله إليهم، وأكل من لحمه؛ لأنه من صيد البحر الذي أحل الله عز وجل ميتته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه حجرين من الجوع، وكان الصحابة يعصبون على بطونهم حجراً حجراً رضي الله تعالى عنهم.