الغني من استغنى بالله

ألم تعلموا وتسمعوا قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو الحارث بن عبد المطلب، والذي كان من أشد الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن أشد الناس تحريضاً عليه، وكان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما فتح الله لنبيه مكة وأسلم الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه؛ لما كان يتذكر من أذاه له، ومن شدته عليه حال الجاهلية، فاشتكى إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ائته من قبل وجهه، وقل له: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردوداً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (((لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))).

وبهذا كان أحسن مردوداً كما كان يوسف عليه السلام؛ وهذا لأنه استغنى بالله عز وجل، واستغنى بعبوديته لله سبحانه، فاضمحل ما في يد الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء لم يشعر بهذا التقصير ولم يلتفت إليه، فكان الجود والخلق الحسن من أخلاق النبيين، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه، فمن استغنى بالله عز وجل بافتقاره إليه دون سواه أغناه الله عز وجل عن كل ما سواه، وجعل نفسه كريمة فيها الجود والسماحة وسهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى مثل: الحسد، والتباغض، والتنافس على الدنيا، وحب الشهرة والرئاسة على الخلق، والملك والسلطان، وهل ترون العالم كله يسعى إلى الدمار وإلى الهلاك وإلى الحرب وإلى القتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك؟ فمن استغنى بالله عز وجل أغناه وجعله في غنى عن الناس، وفي غنى عن أن يطلب منهم شيئاً، ومن افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، فهي تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن كان فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه يستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق فإنه لا يزال في فقر ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت لله سبحانه وتعالى وأخلصت له عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت وانكسرت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015