الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فالله عز وجل أغنى الأغنياء، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
ولذا كان العمل الذي يكون فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله، كما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه، ولا يقبل شريكاً معه في عمل من الأعمال، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون النظر إلى الناس، وعندما ينظر إلى نفسه بعين التقصير والنقص سوف يكون في معاملته مع الناس، وكذلك لا يرى لنفسه حقاً على الناس، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس، وأنها استغنت بالله عز وجل أن يكون الإنسان في معاملته للناس لا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم، وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، وأن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته وخيراً له، فكيف يطلبه منهم؟ فيكون العبد بهذا عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل).
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، بل جعل قلوب أصحابه أسبق شيء إلى معرفة قدره، وإلى تعظيم حقه، ومراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام، مع أنه هو عليه الصلاة والسلام لم ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم.
فالإنسان الذي لا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قصر في حقه هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخْلق بلا نفس يراعي حظها ويراعي نصيبها، وأصبح لا يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، وكان يعامل الناس، وكان يدينهم، فكان يقول لصبيانه أو لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر -أو ضعوا عن المعسر- فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، ولم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا الجواز، إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.