قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
أعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان: أنهم يتوكلون على الله عز وجل، وهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه المؤمن، ويتأكد ذلك عندما تشتد الأمور وتزداد المحن، فيعظم حينها التوكل عليه والاستعانة به سبحانه، كما قال سبحانه وتعالى عن قول فرعون مهدداً: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128].
وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى من أعظم ما يواجه به أهل الإيمان هذه المحن وهذه الكربات.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
وقدم الجار والمجرور في: ((وَعَلَى اللَّهِ))، للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده، ونستعين به وحده؛ لأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله، قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 46].
والتوكل على الله عز وجل درجات: منه التوكل على الله بأمر الرزق، وهذا توكل الطيور، والبهائم، وسائر الكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله؛ لرزقهم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً.
وهذا التوكل ربما تشارك وتساوى فيه الكفرة، والعصاة، والفسقة إلا أن توكل المؤمنين أعظم؛ فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته وتوفيقه لهم، أي: أنه يعينهم على مرضاته، ويبعدهم عن معصيته، موقنين بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن يوفر لهم دخول الجنة.
أما توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام على الله عز وجل فهو في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج الناس من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، وهذا هو أعلى درجات التوكل، بأن تتوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس فقط أن تتوكل على الله في خاصة نفسك لكي تعبده أنت في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبد سبحانه وتعالى في الأرض؛ لأن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلنتوكل عليه في ذلك سبحانه وتعالى؛ لتبقى دعوة الحق قائمة.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)).
وكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية، وهدانا الله عز جل إلى توحيده ومعرفته ومحبته؟ فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته؟ وفي الحقيقة أن التوكل أكمل ما يكون، وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب، وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله سبله، ووفقه الله عز وجل إلى ما أراد، عندما تراءا الجمعان وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فهذا توكل عظيم، إذ لا أسباب بالمرة، فالعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، قال: ((كَلَّا))، يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:62 - 63].
وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وفي الأثر الإسرائيلي عند البخاري عن ابن عباس: (أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء وهو في الطريق إلى النار فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم) فهو هنا توكل على الله بلا أسباب، وهو في لحظات سقوطه في النار، ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، أو بريح هبت فأطفأت النار، أو ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء جعل النار الساخنة مطفأة باردة، لا، بل بأمر منه عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 96].
فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم.
وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له صاحبه وهو في الغار: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).
فهذا توكل عظيم، وهو التوكل على الله عز وجل عند انعدام الأسباب من الناس ومن النفوس، فنفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، ولعلك تيأس من نفسك أنت؛ كما قال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وهذا اليأس من النفس هو عجز.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمع في أن يؤمن عمه أبو طالب، وبذل الجهد في ذلك، وما آمن أبو طالب فقال تعالى له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، يأس من النفس، وإذا كنت لا تملك أن تهدي أحداً فبالأولى لا تملك ذلك لنفسك، ولا تملك لأحد نفعاً ولا ضراً، ولا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً؛ فكيف تملكه لغيرك؟! وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فالمؤمن قد ييأس من النفس، ومن الناس، ومن الأسباب، ولكنه لا ييأس من رحمة الله أبداً، فيبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.