الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله سبحانه: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، هذه الآية فسرها غير واحد من السلف بنزول المسيح صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذا نزل زالت الملل الأخرى وانمحت، وعند ذلك تنتهي مشروعية الجهاد.
وأما يأجوج ومأجوج فمع كفرهم إلا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله لنبي الله عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة لأحد بقتالهم، (فحرز عبادي إلى الطور، وعندها يخرج يأجوج ومأجوج).
فالواجب عند عدم القدرة على القتال تحريز عباد الله المؤمنين، وهذا التعليل واضح وبين؛ لأنه لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج فتحريز عباد الله المؤمنين، والتضرع إلى الله بالدعاء، والدعاء سلاح عظيم يهلك الله به الأمتين الكافرتين المتكبرتين: يأجوج ومأجوج.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه بجبل الطور، حتى يكون رأس الثور لأحدهم أفضل من مائة دينار لأحدكم -لقلة الطعام-، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل -أي: بعد شدة الحصار- فيرسل الله النغف -الدود- في رقابهم -في رقاب يأجوج ومأجوج- فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويصبحون قتلى كموت نفس واحدة) أي: في لحظة واحدة يموت يأجوج ومأجوج، (فينزل نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون شبراً من الأرض إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم) أي: أنفسهم المتناثرة في كل مكان، (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت -أي: الإبل- فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل، ثم يرسل الله عز وجل مطراً فيغسل الأرض فتصير كالزلقة)، فهذه هي نهاية المطاف، وعندها يتوقف تشريع الجهاد، وتخرج الأرض بركاتها؛ بسبب تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى.
(عند ذلك يقال للأرض: ردي بركتك، وأخرجي ثمرتكِ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها -بقشرتها-، ويبارك في الرسل -أي: في اللبن- حتى تكفي اللقحة من الإبل الفئام من الناس، وتكفي اللقحة من البقر القبيلة من الناس، وتكفي اللقحة من الغنم الفخذ من الناس)، وهذه بركة تطبيق شرع الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا هو زمن انتهاء الفتنة، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39] أي: حتى لا يبقى شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وعند ذلك تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها.
وقال عز وجل: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))، أي: أن الله ابتلانا بهم وابتلاهم بنا، {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] وهو عز وجل كان ولم يزل بصيراً بما في قلوب العباد، ولكن يحب أن يرى الصبر والجهاد واليقين والإيمان والعمل الصالح من عباده المؤمنين واقعاًً مشهوداًًًًً، ومن أجل ذلك أوجد الكفرة، وأوجد إبليس، وأوجد الظالمين؛ ليرى سبحانه وتعالى ما يحب، وهو يعلم ما لا يعلم الناس، فقد أوجد الفساد وسفك الدماء في الأرض؛ لأنه يعلم أن من بني البشر أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، قالها عز وجل للملائكة لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فمن أجل ذلك أوجد الله هذا الشر، وهذه الأمور المؤلمة التي يألم لها قلب المؤمن يوجد من ورائها خير لعباده المؤمنين، وهذا من لطفه عز وجل بعباده المؤمنين، حيث ظن الناس أنه شر وإذا به في حقيقة الأمر خير، كما قال سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولا شك أن وجود البلاء والمحنة على المسلمين تدفع قلوب الكثيرين من المنهمكين في المعاصي إلى التوبة، كما كانت الهزائم قبل ذلك تحيي الأمة بقدرة الله سبحانه وتعالى.
فلا بد إذاً من مضاعفة الجهد والعمل في هذه الفترات من الدعوة إلى الله عز وجل، والعبادة والسلوك الطيب، وحسن معاملة الخلق بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه وقت يحدث فيه بإذن الله مزيد من الإقبال على الله عز وجل إذا وجد الناس طريقاً مفتوحة ممهدة من خلال سلوك الملتزمين، ومن خلال دعوتهم ومشاركتهم الصادقة في العمل لأجل إعلاء دين الله ونصرته.
قال الله تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ))، وقرئت: {وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4]، فالذين قتلوا لن يضيع جهدهم؛ لأنهم سينالوا أعظم الجزاء، وسوف تتحقق النتائج التي أرادوها حين تعلو كلمة الإسلامن وأما المقاتلون فهم أحياءٌ يهديهم الله إلى طريق الجنان، ويعرفهم بمنازلهم فيها، كما يهدي من قاتل لطاعته في هذه الدنيا، قال سبحانه: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5 - 6]، فهم أهدى إلى منازلهم من أحدكم بمنزله إذا انصرف من الجمعة، وعرفها الله لهم مع أنهم لم يدخلوا تلك المنازل قبل ذلك، وفي التفسير الآخر: (عرفها لهم) جعلها لهم ذات عرف ورائحة طيبة، وإن عرف الجنة ليوجد من مسيرة خمسمائة عام، فلو كانت الجنة في أبعد مكان في الأرض، بل لو كانت الجنة عند القمر لوجد الناس رائحتها في الأرض، ولا يدخلها الظالمون الذين يضربون بسياطهم الناس، ولا المتبرجات؛ فإنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
ثم أمر الله المؤمنين بنصرة دينه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فنسأل الله أن يثبت أقدامنا على الحق والهدى، وأن ينصرنا وأن ينصر بنا الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم طهر البيت المقدس من دنس اليهود، اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، واحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.