العبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ونحتاج فعلاً إلى إدراك هذا التعريف الجميل، فالعبادة هي الطاعة بأنواعها المختلفة، لكنه يضع يدك على الحروف التي ربما لا ترى كل جزء من أجزائها، فالعبادة ليست فقط الشعائر العظيمة التي هي أركان الدين، بل في الحقيقة هي الأوعية التي يفرض لك فيها نصيبك من المحبة والود، والخوف من الله، ورجائه، والشوق إليه وشكر نعمه، فأنت لن تجد أفضل من الصلاة والصيام والزكاة والحج لكي تنال فضل الله عز وجل عليك في حال قلبك، هذه هي الأوعية التي تنال فيها الغذاء، فأنت عندما تحتاج إلى الغذاء لابد أن يكون لك وعاء، فإن لم يكن معك وعاء لن تأخذ غذاء، فلابد أن تأخذ الوعاء وتقف على الباب وتدقه مرات، وتقول: يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فيرزقك الله عز وجل ما لم يكن يخطر ببالك من أنواع الراحة واللذة والسكون، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29]، طوبى لك إن رزقك الله عز وجل عبادته، ووفقك في عبادتك له سبحانه وتعالى، ولكن كما ذكرنا هذه هي أوعية العبودية، ولابد أن تستحضر أن العبادة أوسع وأشمل من ذلك، بل هي الأركان التي يقوم عليها البناء، قال النبي عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هذه الأركان هي العبادة لكن توجد جوانب أخرى؛ ولذلك أصل هذه العبودية صلاح القلب، قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
إذاً: من العبادة الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
إذاً: المطلوب هو أن تذكر الله؛ ولذا قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فالصلاة فيهما أمران كلاهما عظيم، وأحدهما أكبر وأعظم، الصلاة فيها نهي عن الفحشاء، وإبعاد لك عن مواطن الهلاك، وفيها ما هو أعظم، فيها ذكر الله، وذكر الله أعظم من النهي عن الفحشاء؛ لأن ذكر الله هو حياة الإنسان وحياة قلبه؛ ولذلك قال عز وجل لنبيه وكليمه موسى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، إذاً: الآية هذه تضمنت نفس ما تضمنته الآية الثانية، حيث قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وقال هنا: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114] وشيء أعظم من ذلك كله، وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
فالإنسان محتاج إلى حاجتين: محتاج إلى وقاية من الشر، ومحتاج إلى غذاء، والغذاء أهم، يعني: الغذاء بالنسبة له لو لم يأكل يموت، وإن أخذ بعض المضار فمن الممكن لجسمه أن يتغلب عليها، فإما أن يأكل وإن كان فيه مكروبات، وإما أن يجوع فيموت، وإما أن يشرب ماء معكراً ليس نظيفاً، أو أنه لا يشرب أبداً كذلك الذي اقترف القليل من المعاصي ولكنه يعبد ربه خير من الذي لا يعبد ربه أبداً.
ولذلك نقول: الصلاة لذكر الله عز وجل، والصيام للتقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فالصيام يقرب إلى الله أكثر حتى تتقيه، فأيام رمضان أيام عظيمة البركة، وأيام مليئة بالخير، والصيام جنة، ووقاية من المعاصي، وهو سبب للتقوى وسبب لصلاح القلب، أما الزكاة فقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ} [التوبة:103]، فهي طهارة للقلب وزكاة للإنسان، وأما الحج فقد قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، فهذه العبادات كلها لصلاح القلوب؛ ولذلك القلب هو أساس العبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وعبودية القلب تدور بين العلم والعمل، فالعلم: هو المعرفة والتصديق واليقين بأسماء الله عز وجل وصفاته، ومعرفة ربوبيته وألوهيته، ومعرفة ما يضاد ذلك للحذر منه، ومعرفة الشرك بالله وأنواعه التي يكثر وقوعها في الناس لكي يحذر الإنسان على نفسه منها، ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من تفاصيل لأصول الإيمان كلها: الملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصديق ما جاء به الكتاب والسنة في ذلك وتعلمه تفصيلياً، فكلما تعلمت من ذلك مسألة فهذا في حد ذاته أمر مطلوب، ثم تصديق كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع العبادات من الإيمان والإسلام والإحسان، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر والنواهي، وتصديق أنها حق من عند الله، وأن الله أمر بكذا، وأن الله نهى عن كذا، فكل مسألة من مسائل الدين تتعلمها، ويكون عندك الدليل الصحيح عليها من الكتاب والسنة، فتصدق بأن الله أمر بكذا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، فهذا من عبودية القلب في جانب العلم واليقين والتصديق، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالأدلة ازداد تصديقه ارتفاعاً، ويزداد من ذلك علماً حتى يصل إلى علم اليقين، وربما من الله عز وجل عليه بأشياء تكون من عين اليقين يراها، فيفتح الله سبحانه وتعالى عليه من أنواع العلوم والمكاشفات ما لا يدركه غيره من الناس، وأعظم ذلك أن يعلمه الحق الذي اختلف فيه الناس، ويرشده الله ويهديه إلى الصراط المستقيم فيما اختلف فيه من الحق، قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وأما جانب العمل القلبي فهو عبادات القلب المختلفة، وأصلها: الحب والخوف والرجاء، وهذه أجنحة العبادة الثلاثة، فمن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد، وأما من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، كما يزعم بعض من لا يفهم حقيقة العبادة فيقول: إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها، قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وكاذب لم يعرف حقيقة العبودية، إن الله يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وهذا يقول: إن عبدتك رهبة فأدخلني النار! نعوذ بالله من ذلك، أليس الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]؟ فكيف تقول: لا أرجو الله والعياذ بالله؟! المؤمن يعبد الله حباً وخوفاً ورجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد.
ومن العمل القلبي الإخلاص والانقياد، ونية المتابعة الصادقة لشرع الله عز وجل، ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص والاتباع والإيمان هي شروط صحة العبادة، ولا تصح عبادة من العبادات إلا بالإيمان والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل دون ما سواه، من إرادة النفس وحظوظها وشوائب الرياء، وحب مدح الناس، والخوف من ذمهم وغير ذلك.
ومن شروط صحة العبادة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وأصل الاتباع: قلبي، وكماله: باللسان والجوارح.
وكذلك عبادة الصبر والشكر والرضا، وعبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى، وكذا عبادة الزهد في الدنيا، وتعظيم أمر الآخرة، وتعظيم الرب سبحانه وتعالى، وتعظيم أوامره، وتعظيم حرماته، والورع عن محارمه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من عبادات القلب، وذكر الله أصله في القلب، ثم يعبر عنه باللسان.
والتوبة إلى الله عز وجل أصلها عقد العزم ألا يعود إلى الذنب مع ترك الإصرار والإقلاع عن الذنب، فهذه كلها من عبادات القلب المهمة العظيمة.
والمراقبة لله سبحانه وتعالى، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومحاسبة النفس لله، والتفكر والاعتبار بآيات الله سبحانه وتعالى، وكل عبادة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته من عبادات القلب فهي من أعمال القلوب.
ومنها الاعتقاد واليقين وتصديق الله فيما