يقول حذيفة رضي الله عنه: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا واحداً واحداً في ليلة ما رأيت أظلم منها ولا أبرد منها قط، والريح شديدة حتى كان أحدنا لا يكاد يرى أصبعه.
قال حذيفة: فتقاصرت في الأرض كراهية أن أقوم.
فلا يريد أن يظهر لكي يكلفه النبي صلى الله عليه وسلم بعمل لشدة الجوع وشدة البرد، يقول: ليس علي ما أتقي به البرد إلا برد لامرأتي لا يبلغ ركبتي.
وأرسل عثمان بن مظعون ابن أخته عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إلى الحصون ليأتي لهم من هناك بطعام وثياب، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن من لقيت من أصحابي فأمرهم فليرجعوا، يقول عبد الله بن عمر: فما رأيت أحداً إلا أمرته بالرجوع، فلا يلوي أحد منهم عنقه.
أي: كانوا لا يلتفتون إلى كلام عبد الله ولا يسمعونه، بل كل متجه إلى بيته لا يريد أن يكون مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
فعشر المسلمين فقط هم الذين ثبتوا وهم الذين بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي الخلاصة التي أعز بها الله عز وجل الدين في المشارق والمغارب.
وبعد ذلك صلى النبي عليه الصلاة والسلام صلاة طويلة ثم قال: (قد حدث في القوم حدث، فمن يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فضمن له صلى الله عليه وسلم الرجوع ووعده بالجنة.
ونحن نعلم حب الصحابة الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالهم لما يرغب فيه قبل أن يأمر، ولكن كانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان الخوف والبرد الشديد والحصار والكرب في غايته، وكاد المشركون أن يصلوا إلى غايتهم، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5].
فلما طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه رجل بخبر القوم على أن يكون رفيقه في الجنة ما قام رجل، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة) فلم يقم أحد ثم كرر الثالثة، ثم قال: (قم يا حذيفة) وذلك لثقته به، لأنه يعلم أنه لن يعصي له الأمر المباشر، وإن كان الأمر المستحب يحتمل أن يكون متروكاً عندهم.
قال حذيفة: فما كان من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني)، وفي رواية مسلم: (فلا تذعرهم علي).
فذهب حذيفة رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا له بقوله: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).
قال: (فكأنما أمشي في حمام، وما خلق الله في قلبي من الخوف والقر قد خرج فلا أجد منه شيئاً).
فدخل المعسكر ونظر إلى أبي سفيان يدفئ يده ويضعها على خاصرته ويقول للناس: لينظر كل أحد منكم من جليسه.
وكأنه توقع أن يوجد في القوم من ليس منهم، فأخذ حذيفة رضي الله عنه بيد جليسه وقال: (من أنت؟ فقال: فلان بن فلان فترك يده)، وذلك لكي لا يسبقه الرجل بقوله: من أنت.
فقال لهم أبو سفيان: ما أنتم بدار مقام، إني مرتحل فارتحلوا.
وذلك حين رآهم والريح تفعل بهم ما تفعل لا تترك لهم ناراً، ولا يستقر لهم قدر، ولا تقوم لهم خيمة، وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما ذكر الله سبحانه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11].