قال الله سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]، فقد شبه الله سبحانه وتعالى الوحي النازل من عنده بالماء النازل على الأودية فيتسع كل وادٍ على قدر حجمه من المطر النازل، فالقلب كهذه الأودية، والماء النازل من السماء كالوحي الداخل إلى القلوب، فالقلوب الكبيرة بكبرها والصغيرة بصغرها، ومعنى بقدرها؟ يعني: أن كل واحد له نصيب بحسب حجمه، فهناك قلوب كبيرة امتلأت إيماناً وعلماً وحكمة، وهناك قلوب صغيرة لا تتسع لشيء من ذلك، وهناك أراضٍ هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا تنتفع بالقرآن العظيم، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره إلى مولاه استغنت النفس غنىً يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها، فتصبح باردة ضعيفة الانفعال، أو عديمة الانفعال، كشيء جاف ناشف متثلج، وهذا مثال جيد يعني: أن الناس الذين لا يتحركون ولا ينفعلون من أجل الإسلام، ولا من أجل نصرته، ولا العمل له، فهؤلاء يعيشون في ثلاجة غرق الدنيا، فهم في برودة لعدم الحركة، تائهون في ظلمات الكسل، وعدم الحركة توجب العجز المذموم، وتوجب الثقل، وتوجب الإخلاد إلى الأرض، وتذهب الطمأنينة عن النفس، فلا توفر لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر والنواهي، أي: في اجتناب الزواجر، وفي فعل الأوامر، فالنفس التي هي عديمة الحركة دائماً تطلب صحبة عباد الشهوات، وصاحبها يفكر دوماً في كسب المال، أو مضاجعة الشهوات الأخرى، كالرياسة والملك والنساء، فلا يفكر أن يصحب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يستحضر صحبة الملأ الأعلى والملائكة وصفاتهم الجميلة، وكمالهم الذي جعله ربنا فيهم ليكونوا قدوة للبشر.
ولو سمعت سيرة من تقدم لارتحت وتنعمت في الدنيا إن عملت بعملهم، فكيف وقد صحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأفضل منهم جميعاً، ولذا كان يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى)، فقد صارت لهذه النفس المؤمنة حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، أما النفس التي هي عديمة الحركة فقد صارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها، بعد أن كانت برودتها في الأوامر الشرعية، فهي لا تتحرك، فليس الشرع هو الدافع والمحرك الحقيقي لها، وإنما الدافع لحركتها هو الشهوات؛ لأنها بحاجةٍ إليها كحاجة السيارة إلى البنزين، فهذه النفس مقصودها من حركتها قضاء حاجتها من المطعم والمشرب ونحوه لكي تستمر في الحياة؛ لأنها أصلاً لا تعيش إلا لأجلها في نظرها، فلذا صارت البرودة في الشهوات، وفي الحظوظ النفسية التي هي الكلام وسط الناس بالرعونة التي تأتي بالقرارات الغبية، فمرة مشرقة، ومرة مغربة لا يعرف الصواب منها من الخطأ، ولو أنه يفكر ويتدبر في الذي دعاه لاختيار كذا، وهل أريدها لنفسي أم لربي؟ فأكثر الناس يتخذون قراراتهم بدون تركيز، وحياتهم كلها على هذا المنوال، وفي الحقيقة فكثير منا في حياته على هذا النحو، فلا نفكر في نفوسنا ولا نفتش الدوافع التي جعلتنا نفعل هذا؟ فتتخذ قرارات رعناء، فتكون سبباً مؤثراً في رعونة النفس وبرودتها، وبهذه القرارات أيضاً تكون النفس حاملة لليبوسة والجفاف والقسوة والغلظة المضادة للينها وسرعة انفعالها لأجل دينها، وقبولها له، فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، لا تتأثر، وليس عندها قابلية للتأثر والانفعال لأوامر الله وللمواعظ التي توعظ بها، والقرآن يعظنا فهل نتأثر به أم لا؟ وعذرنا القسوة والغفلة.