صبره في تحمل التكاليف

(لما أرد الهجرة جاء لـ أبي بكر -صاحبه وأي صاحب! - في وقت لم يكن يأتيه فيه متقنعاً -الأمر غريب، الوقت ظهيرة- فدخل على أبي بكر، وعنده ابنته الصغيرة عائشة، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: يا أبا بكر! اخرج مَن عندك وكانت عائشة جالسة، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك، فقال النبي لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إذاً: الصحبة -ماذا يختار؟ ماذا يريد أبو بكر؟ يريد أن يخرج في أخطر هجرة على وجه التاريخ، في أخطر رحلة يعرض فيها نفسه للقتل- فقال النبي: يا أبا بكر! الصحبة، الصحبة يا أبا بكر! فانفجر أبو بكر يبكي، تقول عائشة: والله ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح إلا بعدما رأيت أبي يبكي في ذلك اليوم، يقول: الصحبة يا رسول الله! الصحبة يا رسول الله!).

يخرج معه في الهجرة فرحاً، فلما دخلا في الغار، ماذا صنع أبو بكر؟ لقد رأى جحراً في الغار فإذا به يضع رجله فيه ورجله الأخرى في جحرٍ آخر، ويده في جحرٍ ثالث، يخاف على رسول الله! لسعته حية -حي من هوام الأرض- فما أخرج يده، والرسول نائم ورأسه على فخذ أبي بكر، ولم يرفع أبو بكر يده ولا رجله من ذلك الجحر، فدمعت عينا أبي بكر، فسقطت دمعته على وجه رسول الله، فاستيقظ النبي، فقال: ما الذي أصابك يا أبا بكر! قال: لا شيء يا رسول الله! إلا أنه أصابني من هوام الأرض -لسعني شيء من هوام الأرض- فما أردت أن أوقظك، فأخذ النبي رجله فدعا له وبصق عليها، وكأن لم يكن به شيء.

والنبي يقول لـ أبي بكر بعد أن قال لما رأى المشركين عند المغارة يقفون: (لو نظر أحدهم إلى رجله لرآنا قال: أو تخاف يا أبا بكر؟ قال: لا أخاف على نفسي إنما أخاف عليك يا رسول الله! فقال النبي له: لا تخف يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:4].

(يخرجان من الغار، يمضيان إلى المدينة، فيلحقهما سراقة، ولم يكن أسلم في ذلك الوقت، وكان بطلاً شجاعاً -فكاد أن يصل إليهما، فبكى أبو بكر، فقال له النبي: لم تبكِ يا أبا بكر؟ فيقول: يا رسول الله! والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فابتسم النبي، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فسقط منها، فعلم سراقة أن الأمر فيه شيء، وأن هذا الرجل ليس رجلاً كغيره من الرجال، لا بد أن عنده شيء من السماء -فقال له النبي: هل لك أن ترجع، ولا تخبر بأمرنا؟ قال: وماذا لي يا محمد؟ قال: لك يا سراقة! سوارا كسرى).

سوارا أعتى رجل على وجه الأرض، وصاحب أكبر دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان، إنها فارس، وعليها كسرى.

سبحان الله! انظروا إلى يقينه بنصر الله، يقينه بموعود الله عز وجل، ثم يموت رسول الله، وتمضي السنون ويموت أبو بكر، فيأتي عهد عمر فتُفتح فارس، ويؤتى بسواري كسرى إلى عمر بن الخطاب، فيقول عمر: [أين سراقة بن مالك؟ أين سراقة بن مالك؟ فيؤتى بـ سراقة وكان قد أسلم وجاهد في سبيل الله، فقال له عمر: يا سراقة! إليك سواري كسرى، هذا وعد رسول الله]: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

يأتي النبي إلى المدينة والصحابة والأنصار ينتظرونه في كل يوم، فإذا اشتد حر الظهيرة رجعوا إلى منازلهم، وفي ذلك اليوم رجعوا لما اشتدت الشمس بحرها، فلما رجعوا فإذا بيهودي يصعد على أطم من الآطام، فيرى ظلين من بعيد، فيعرف أنه الرسول وصاحبه، فيرجع إلى الأنصار، فيقول: يا معشر الأنصار! يا معاشر العرب! هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، هذا نبيكم الذي تنتظرون، فثار الأنصار إلى سلاحهم واستقبلوه عند أبوابهم وهم يكبرون، ويقولون: الله أكبر! الله أكبر! جاء نبي الله، جاء نبي الله، استقبلوه في الشوارع، وعلى سطوح المنازل، بالرجال والنساء والأطفال وهم يكبرون.

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].

فإذا بالنبي يدخل المدينة، يقول أنس: أضاء في المدينة كل شيء، بنى المسجد، وأسس الدين، ونشر الهداية في قلوب المؤمنين، أسرهم بحبه، وبأخلاقه عليه الصلاة والسلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015